بقلم : عبود مزهر الكرخي
الليلة الحادي والعشرون-----------------------عظم الله أجوركم بمصيبة سيدنا وإمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ففي هذه الليلة قضى نحبه وفارق الحياة، وقد انطوت صفحات تلك الحياة المشرقة، واستراح الإمام من أيدي الناس وأفواههم وانتهت أيام مسؤوليته.
فقد جمعوا له أطباء الكوفة ومن جملتهم: أثير بن عمرو بن هاني السكوني فلما نظر إلى جرح رأس الإمام طلب رئة شاة حارة فاستخرج منها عرقاً ثم نفخه ثم استخرجه، وإذا عليه بياض الدماغ كأنه قطن مندوف فقال: يا أمير المؤمنين اعهد عهدك وأوص وصيتك فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك.
قال محمد بن الحنيفة: لما كانت ليلة إحدى وعشرين جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم ثم قال لهم: الله خليفتي عليكم، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأوصاهم بلزوم الإيمان..
وتزايد ولوج السم في جسده حتى نظرنا إلى قدميه وقد احمرتا جميعاً، فكبر ذلك علينا وأيسنا منه.
ثم عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبى أن يشرب، فنظرنا إلى شفتيه يختلجان بذكر الله، ثم نادى أولاده كلهم بأسمائهم واحداً بعد واحد وجعل يودعهم وهم يبكون فقال الحسن: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: يا بني إني رأيت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منامي قبل هذه الكائنة بليلة فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذى من هذه الأمة فقال لي: أدع عليهم فقلت: اللهم أبدلهم بي شراً مني وأبدلني بهم خيراً منهم.
فقال لي رسول الله: قد استجاب الله دعاك، سينقلك إلينا بعد ثلاث.
وقد تحققت دعوة الأمام علي(ع) في حال حكامنا والذين هم شرار الأمة والذين لا يراعون حقاً في الرب والعباد.
وقد مضت الثلاث، يا أبا محمد أوصيك ويا أبا عبد الله خيراً، فأنتما مني وأنا منكما، ثم ألتفت. إلى أولاده الذين من غير فاطمة (عليها السلام) وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسين، ثم قال: أحسن الله لكم العزاء، ألا وإني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه ولاحق بحبيبي محمد (صلّى الله عليه وآله) كما وعدني، فإذا أنا مت ـ يا أبا محمد ـ فغسلني وكفني وحنطني ببقية حنوط جدك رسول الله، فإنه من كافور الجنة جاء به جبرائيل إليه، ثم ضعني على سريري، ولا يتقدم أحد منكم مقدم السرير، واحملوا مؤخره، واتبعوا مقدمه، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر، فحيث قام سريري فهو موضع قبري، ثم تقدم ـ يا أبا محمد ـ وصل علي ـ يا بني يا حسن ـ وكبر علي سبعاً، واعلم أنه لا يحل ذلك على أحد غيري إلا على رجل يخرج في آخر الزمان اسمه: القائم المهدي من ولد أخيك الحسين يقيم اعوجاج الحق.
وفي كثير من الروايات تتحدث عن أن حمل مقدمة نعش أمير المؤمنين روحي له الفداء كان من قبل جبرائيل والملائكة من بعده.
فإذا أنت صليت علي ـ يا حسن ـ فنح السرير عن موضعه ثم اكشف التراب عنه، فترى قبراً محفوراً، ولحداً مثقوباً وساجة منقوبة، فأضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري فتفقدني فإنك لا تجدني وإني لاحق بجدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأعلم يا بني: ما من نبي يموت وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا ويجمع الله عز وجل بين روحيهما وجسديهما، ثم يفترقان فيرجع كل واحد منهما إلى موضع قبره وإلى موضعه الذي حط فيه.
ثم أشرج اللحد باللبن (جمع لبنة) وأهِل التراب عليُّ ثم غيِّب قبري.(1)
أوصى الإمام (عليه السلام) ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) وجميع أهل البيت بوصايا عامّة فقال :
(أوصيكما بتقوى الله ، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا بالحقّ واعملا للأجر ، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً ، واعملا بما فيمن أراد أن الكتاب ، ولا تأخذكما في الله لومة لائم). (2)
ثم عرق جبين الإمام فجعل يمسح العرق بيده فقالت أبنته زينب: يا أبه أراك تمسح جبينك؟ قال: يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه.
فقامت زينب وألقت بنفسها على صدر أبيها وقالت: يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء وقد أحببت أن أسمعه منك، فقال: يا بنية، الحديث كما حدثتك، أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً..
ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحسين وقال: يا أبا محمد ويا أبا عبد الله كأني بكما وقدج خرجت عليكما من بعدي الفتن من ههنا وههنا فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين يا أبا عبد الله أنت شهيد هذه الأمة، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه.(3)
ثم أغمي عليه وأفاق وقال: هذا رسول الله، وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله، وكلهم يقولون: عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون، ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال: أستودعكم الله جميعاً، سددكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله، وكفى بالله خليفة، ثم قال: وعليكم السلام يا رسل ربي، ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).(4)
وما زال يذكر الله، ويستشهد الشهادتين، ثم استقبل القبلة، وغمض عينيه ومدد رجليه ويديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم قضى نحبه!! فعند ذلك صرخت زينب بنت علي وأم كلثوم وجميع نسائه وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود، وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم أهل الكوفة أن أمير المؤمنين قد فارق الحياة، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة فارتجت الكوفة بأهلها، وكثر البكاء والنحيب والضجيج بالكوفة وقبائلها وجميع أقصارها، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتغير أفق السماء، وسمع الناس أصواتاً وتسبيحاً في الهواء، واشتغلوا بالنياحة على الإمام.(5)
أمر الإمام الحسن الناس بالإنصراف، ولم يبق إلا أولاد أمير المؤمنين وعدد قليل من أخص أصحابه المعتمد عليهم، فابتعدوا عن الكوفة في جوف الليل قاصدين النجف، وإذا بمقدم السرير قد وضع، فوضع الحسن والحسين مؤخر السرير، وقام الحسن وصلى مع جماعة على أبيه فكبر سبعاً كما أمر أبوه، ثم زحزح السرير، وكشف التراب وإذا بقبر مقبور ولحد مشقوق وساجة منقورة مكتوب عليها: هذا ادخره نوح النبي للعبد الصالح الطاهر بن المطهر.
ولما أرادوا إنزاله إلى القبر سمعوا هاتفاً يقول: أنزلوه إلى التربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب، فدهش الناس من سماع الهاتف، وانتهى الدفن قبل الفجر، وأخفوا قبره كما أوصى به، لأنه (عليه السلام) كان يعلم من عداوة الخوارج والأعداء له، فقد روي في منتخب التواريخ أن الحجاج بن يوسف نبش في النجف آلاف القبور يفتش عن جثمان علي (عليه السلام) ولكنه لم يعثر عليه، ولم يزل القبر مخفياً عن الناس لا يعرف به إلا أولاد الإمام وأخصاء الشيعة إلى أيام هارون الرشيد.
قال عبد الله بن حازم: "خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة نتصيد فصرنا إلى ناحية الغري، فرأينا ظبيات، فأرسلنا إليها الصقور والكلاب، فحاولتها ساعة، ثم لجأت الظباء إلى الأكمة فسقطت عليها، فسقطت الصقور والكلاب، فتعجب الرشيد من ذلك ثم أن الظباء هبطت من الأكمة فسقطت الصقور والكلاب فرجعت الظباء إلى الأكمة، فتراجعت عنها الكلاب والصقور ففعلت ذلك ثلاثة، فقال هارون: أركضوا فمن لقيتموه آتوني به؟ فأتيناه بشيخ من بني أسد، فقال هارون ما هذه الأكمة؟ قال: إن جعلت لي الأمان أخبرتك! قال: لك عهد الله وميثاقه أن لا أهيجك ولا أؤذيك".(6)
قال الشيخ حدثني أبي عن أبيه أنهم كانوا يقولون: هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام) جعله الله حرماً لا يأوي إليه أحد إلا أمن.
فنزل هارون ودعى بماء فتوضأ وصلى عند الأكمة وتمرغ عليها وجعل يبكي، وأمر ببناء القبة على القبر.(7)
"ولقد وصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية بن أبي سفيان حتى أبكاه وأبكى القوم وجعله يترحّم عليه، بقوله : "كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها،
ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة طويل الفكرة، يقلّب كفّه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما جشب. وكان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبّئنا إذا استنبأناه. ونحن والله مع تقريبه إيّانا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبةً له، فإن ابتسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله".(8)
وروي عن أمامنا(ع) أنه قال بحضرة الأنصار والمهاجرين (وأشار إلى صدره):
كيف مليء علماً، لو وجدت له طالباً،سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول(ص)هذا ما زقني رسول الله(ص)زقاً فاسألوني فإن عندي علم الأولين والآخرين.أما والله لو ثنيت لي الوسادة ثم أجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتى ينادي كل كتاب بأن علياً قد حكم فيَّ بحكم الله فيً.(9)
فكان ينبوع الحكمة والعلم وهو باب مدينة العلم وكان العلم يتفجر من جوانبه وهو لحد آخر لحظة في حياته يقول ((سلوني قبل إن تفقدوني)) والذي لم يقلها بعدها ويطبقها غيره من الأولين والآخرين بعد نبينا الأكرم محمد(ص)
وأخيراً أقدم بحثي يا سيدي ومولاي أمير المؤمنين الذي هو يصغر أمام عظمتكم في فيض بحر جودك وكرمك وعلمك المتفجر من ينبوع الحكمة والعدالة والعدل وكل القيم العظيمة والتي خصك بها الله سبحانه وتعالى ونهلتها من أخيك وأبن عمك رسول محمد (ص) عسى وبهذه الكلمات المتواضعة أن تكون لي شفيعاً عند الله وأن نسير خلف لواءك لواء الحمد وتدخلنا الجنة والتي قالها لك نبينا الأكرم محمد(ص) في حديثه الشريف ((ياعلي ! أنت وشيعتك الفائزون والعابرون يوم القيامة ))و ((تأتي أنت شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، ويأتي عدوك غضاباً مقمحين)).
فالسلام عليك ياسيدي ومولاي يا أمير المؤمنين يوم ولدت في بيت الله (الكعبة) والسلام عليك يوم تقلدت الإمامة والسلام يوم استشهدت في بيت الله وفي محرابك والسلام عليك يوم تبعث حياً.
فالسلام عليك يا أخي رسول الله ووصيه وحجته على خلقه.
والسلام عليك يا زوج البتول.
والسلام عليك يا أبا الحسنين .
والسلام عليك يأبو الأئمة الأطهار من ولدك الحسينوالسلام عليك ياخير البرية ويا أمام الأنس والجان ويا قسيم الجنة والنار .
والسلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت بسيف الغدر والخيانة ويوم تبعث حياً ما بقي الليل والنهار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ونسألكم الدعاء والمسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالمصادر :1 ـ الأمام علي من المهد إلى اللحد /تاليف العلامة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني. الليلة العشرون. باب علي طريح الفراش .منشورات النور للمطبوعات. بيروت ـ لبنان. الليلة الحادي وعشرون.باب علي(عليه السلام يفارق الحياة.2 ـ أعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام).قم المقدسة.ص 223
3 ـ الأمام علي من المهد إلى اللحد /تاليف العلامة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني. الليلة العشرون. باب علي طريح الفراش .منشورات النور للمطبوعات. بيروت ـ لبنان. الليلة الحادي وعشرون.باب علي(عليه السلام يفارق الحياة.4 ـ سورة النحل، الآية: 128.
5 ـ الأمام علي من المهد إلى اللحد /تاليف العلامة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني. الليلة العشرون. باب علي طريح الفراش .منشورات النور للمطبوعات. بيروت ـ لبنان. الليلة الحادي وعشرون.باب علي(عليه السلام يفارق الحياة.6 ـ نفس المصدر.
7 ـ نفس المصدر.
8 ـ أعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام).قم المقدسة.ص 18. و(1) الاستيعاب (المطبوع بهامش الإصابة) : 3/44، ط دار إحياء التراث العربي بيروت.
9 ـ بحار الأنوار . ج 40 ، ص 135.
https://telegram.me/buratha