بقلم : عبود مزهر الكرخي
اليوم العشرون----------------في مثل صبيحة هذا اليوم وقعت الحادثة الكبرى التي ذكرنا عنها اليسير ليلة أمس، لا يملك القلم واللسان بياناً لشرح الواقعة والدهشة التي استولت على الناس إثر استماع الصيحة السماوية وانتشار الخبر في الكوفة بأسرع ما يكون، وأقبلت الجماهير تتراكض إلى المسجد (محل الحادثة) حتى المخدرات خرجن من خدورهن، وغص المسجد الجامع بالناس، فلا ترى إلا صفق الأيدي على الرؤوس ولا تسمع إلا أصوات النياحة وصرخات الناس، وقد أزدحم الناس حول الإمام ينظرون إلى ذلك البطل الذي كان يخوض غمار الموت، وكانت الأسود تخاف من باسه واسمه، ينظرون إليه وقد أبيض وجهه من نزف الدم، وصلى الإمام صلاة الصبح من جلوس، ثم قال احملوني إلى منزلي.
فحملوه والناس حوله يبكون وينتحبون، وكان الحسن والحسين أشد الناس بكاء وحزناً، فكان الحسين (عليه السلام) يبكي ويقول: يا أبتاه من لنا بعدك؟ لا يوم كيومك إلا يوم رسول الله، من أجلك تعلمت البكاء، يعز ـ والله ـ علي أن أراك هكذا.
فعزاه الإمام وسلاه، ومسح دموع ولده ووضع يده على قلب ولده وقال: يا بني ربط الله على قلبك وأجزل لك ولأخوتك عظيم الأجر.
أقبلت بنات رسول الله وسائر بنات الإمام وجلسن حول فراشه ينظرن إلى أسد الله وهو بتلك الحالة، فصاحت زينب الكبرى وأختها: أبتاه من للصغير حتى يكبر؟ ومن للكبير بين الملأ؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا ترقا! فضج الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب، وشاركهم الإمام وفاضت عيناه بالدموع.(1)
اجتمع الأطباء والجراحون فوصفوا للإمام اللبن، لأن سيف ابن ملجم كان مسموماً، فكان اللبن طعامه وشرابه، ودعي الإمام بولديه وجعل يقبلهما ويحصنهما لأنه علم أنه سيفارقهما وكان ثم قال هل من شربة لبن؟ فأتوه بلبن فشربه كله، فذكر (عليه السلام) ابن ملجم وأنه لم يترك له من اللبن شيئاً فقال: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، أعلموني أني شربت الجميع، ولم أبق لأسيركم شيئاً من هذا! ألا: وإنه آخر رزقي من الدنيا! فبالله عليك ـ يا بني ـ إلا ما سقيته مثل ما شربت، فحمل إليه اللبن فشرب وقال: احملوه إلى أسيركم! ثم قال للحسن: يا بني بحقي عليك إلا ما طيبتم مطعمه ومشربه وارفقوا به إلى حين موتي! وتطعمه مما تأكل، وتسقيه مما تشرب حتى تكون أكرم منه!! وكان اللعين ابن ملجم محبوساً في بيت، فحملوا إليه اللبن وأخبروه بعطف الإمام وحنانه على قاتله، فشرب اللعين اللبن.
وكان يغمى عليه ساعة بعد ساعة، فناوله الحسن قدحاً من اللبن فشرب منه قليلاً، ثم نحاه عن فمه . ولهذا تجد العراقيين من الموالين يوزعون في يوم العشرين من رمضان رز ماش مع اللبن ويسمونها بالعامية (مشتهاة أمير المؤمنين) تيمناً بسيدي ومولاي داحي باب خيبر.
وجيء بأشقى الأولين والآخرين اللعين عبد الرحمن بن ملجم فماذا قال لأولاده وأصحابه هل قال أقتلوه في الحال ! كلا بل عندما شاهده يرتجف من الخوف هذا اللعين قال له بضعف وأنكسار صوت رأفة ورحمة ((يا هذا لقد جئت عظيماً، وارتكبت أمراً عظيماً ، وخطباً جسيماً ، أبئس الأمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ألم أكن يقال فيك كذا وكذا ، فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قتلي لا محالة ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء؟فدمعت عينا اللعين ابم ملجم وقال يا أمير المؤمنين : أفنت تنقذ من في النار. قال له : صدقت ثم التفت (ع) إلى ولده الحسن(ع) وقال له : أرفق يا ولدي بأسيرك. وأرحمه وأحسن إليه وأشفق عليه ، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً وفزعاً؟؟فقال الحسن(ع) يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وافجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟ فقال : نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرماً وعفواً! والرحمة والشفقة من شيمتنا! بحقك عليك فاطعم يا بني مما نأكله! واسقه مما نشرب! ولا تقيد له قدماً ولا تغل له يداً! فأن أنا مت فأقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل فأني سمعت جدك رسول الله(ص) يقول ((إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ، وإن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو عنه وأنا أعلم بما أفعل به)).(2)
فهذا هو خلق أئمتنا وهذا مذهبنا شعارهم التسامح والعفو عند المقدرة التي تربى بها أمامنا أبو الحسن في المدرسة المحمدية والذي كان هو باب مدينة العلم التي يدخل منها إلى الروضة المحمدية فرحماك يا أبو تراب الذي حتى في موتك تعلمنا معنى الأخلاق والتسامح وفي كل مسيرتك كنت النور الوهاج في الظلام تنور للبشرية الطريق السليم والصحيح لديننا الإسلامي الحنيف والذي ظلموك في كل حياتك ولم يعرفوا حقك وقدرك الذي كنت في أعلى عليين عند مليك مقتدر وأنت النبأ العظيم والآية الكبرى التي وصفك بك الله في كتابه العزيز قرآننا المجيد
قال محمد بن الحنيفة: بتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي وقد نزل السم إلى قدميه، وكان يصلي تلك الليلة من جلوس ولم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن نفسه، ويخبرنا بأمره إلى طلوع الفجر، فلما أصبح استأذن الناس عليه، فأذن لهم بالدخول، فدخلوا عليه واقبلوا يسلمون عليه وهو يرد (عليهم السلام) ثم يقول: أيها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني، وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم!! فبكى الناس بكاء شديداً، وأشفقوا أن يسألوه تخفيفاً عنه فقام إليه حجر بن عدي الطائي وقال:
فيا أسفي على المولى النقي*** أبي الأطهار حيدرة الزكي
قتله كـــــافر حنــــــث زنيم*** لعين فاســـــق نغل شـــــقي
إلى آخر أبياته، فلما بصر الإمام وسمع شعره قال له: كيف بك إذا دعيت إلى البراءة مني؟ فما عساك أن تقول؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إرباً إرباً، وأضرم لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك!! فقال (عليه السلام): وفقت لكل خير يا حجر، جزاك الله عن أهل بيت نبيك.(3)
أما قصة المجرم اللعين عبد الرحمن بن ملجم المرادي فهي ( انتدب ثلاثة نفر من الخوارج عبد الرحمن بن ملجم المرادي ، وهو من حمير وعداده في مراد ، وهو حليف بني جبلة من كندة والبرك بن عبد الله التميمي ، وعمرو بن بكير التميمي ، فاجتمعوا بمكة وتعاهدوا وتعاقدوا ليقتلن هؤلاء الثلاثة: علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ، ويريحُنَّ العباد منهم . فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا لكم بعلي بن أبي طالب ، وقال البرك: وأنا لكم بمعاوية ، وقال عمرو بن بكير: أنا أكفيكم عمرو بن العاص ، فتعاهدوا على ذلك وتعاقدوا وتواثقوا لا ينكص رجل منهم عن صاحبه الذي سمى ويتوجه إليه حتى يقتله ، أو يموت دونه!).(4)
في الفصول المهمة:فمر في بعض الأيام بدار من دور الكوفة فيها عرس،فخرج منها نسوة،فرأى فيهن امرأة جميلة فائقة في حسنها،يقال لها:قطام بنت الأصبغ التميمي لعنها الله،فهواها و وقعت في قلبه محبتها،فقال لها:يا جارية،أيم أنت أم ذات بعل؟فقالت:بل أيم.
فقال لها:هل لك في زوج لا تذم خلائقه،فقالت:نعم،و لكن لي أولياء اشاورهم.فتبعها فدخلت دارا ثم خرجت إليه،فقالت:يا هذا إن أوليائي أبوا أن يزوجوني إلا على ثلاثة آلاف درهم و عبد وقينة(5).قال:لك ذلك.
قالت:و شريطة اخرى؟قال:و ما هي قالت:قتل علي بن أبي طالب،فإنه قتل أبي و أخي يوم النهروان !!قال:ويحك و من يقدر على قتل علي و هو فارس الفرسان و واحد الشجعان،فقالت:لا تكثر،فذلك أحب إلينا من المال،كنت تفعل ذلك و تقدر عليه و إلا فاذهب إلى سبيلك؟
فقال لها:أما علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلا،و لكن إن رضيتي ضربته بسيفي ضربة واحدة و انظري ماذا يكون؟قالت:رضيت،و لكن التمس غرته لضربتك،فإن أصبته،انتفعت بنفسك و بي،و إن هلكت،فما عند الله خير و أبقى من الدنيا و زينة أهلها.
فقال لها:و الله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل علي بن أبي طالب!!قالت:فإذا كان الأمر على ما ذكرت،دعني أطلب لك من يشد ظهرك و يساعدك؟فقال لها:افعلي.
فبعثت إلى رجل من أهلها يقال له:وردان،من تيم الرباب فكلمته فأجابها(6)،و خرج ابن ملجم من عندها و هو يقول:
ثلاثة آلاف و عبد و قينة(7) ***و قتل علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي و إن غلا ***و لا فتك إلا دون فتك ابن ملجم (8)
و جاء ابن ملجم إلى رجل من أشجع،يقال له:شبيب بن بحرة من الخوارج،فقال له:هل لك في شرف الدنيا و الآخرة؟قال:و كيف ذلك،قال:قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) ،فقال له:ثكلتك امك لقد جئت شيئا إدا،كيف تقدر على ذلك؟
قال:أكمن له في المسجد،فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه،فإن نجينا شفينا أنفسنا و أدركنا ثأرنا،و إن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا و ما فيها،و لنا اسوة في أصحابنا الذين سبقونا.
فقال له:ويحك لو كان غير علي،و قد عرفت بلاءه في الإسلام و سابقته مع النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و ما أجد نفسي تنشرح لقتله،قال:ألم تعلم أنه قتل أهل النهروان العباد المصلين؟قال بلى،قال:فنقتله بمن قتل من إخواننا،فأجابه إلى ذلك،فجاءوا إلى قطام و هي في المسجد الأعظم معتكفة،و كان ذلك في شهر رمضان،فقالوا لها:قد صممنا و أجمع رأينا على قتل علي بن ابي طالب.
فقال ابن ملجم:و لكن يكون ذلك في الليلة الحادية و العشرين منهم(9)،فإنها الليلة التي تواعدت أنا و صاحباي فيها على أن يبيت كل واحد منا صاحبه الذي تكفل بقتله،فأجابوه إلى ذلك.(9)
قال أبو الفرج الأصفهاني في (المقاتل) :قالت قطام لهما:فإذا أردتما ذلك فالقياني في هذا الموضع،فانصرفا من عندها فلبثا أياما،ثم أتياها ليلة الجمعة لتسع عشرة خلت من شهر رمضان سنة أربعين.(11)
و قال المسعودي في تأريخه:فدعت قطام لهما بحرير فعصبتهما،و أخذوا أسيافهم و قعدوا مقابلين لباب السدة التي يخرج منها علي (عليه السلام) للمسجد،و كان علي (عليه السلام) يخرج كل غداة أول الأذان يوقظ الناس للصلاة،و كان ابن ملجم مر به الأشعث و هو في المسجد،فقال له:فضحك الصبح،فسمعها حجر ابن عدي،فقال:قتلته يا أعور قتلك الله.(12)
فهذا ماكان في اليوم من العشرين والذي كان فيه سيدي ومولاي امير المؤمنين روحي له الفداء يتجرع السم وهو يسري في أوصاله لكي يمضى شهادته والالتحاق بالرفيق ولقاء أخيه وحبيبه محمد(ص) وزوجته فاطمة الزهراء وليشكي لنبيه ورسوله (ص) ماذا فعلت أمت محمد بوصيه وخليفته على الأرض من سلب حقه واغتصاب خلافته ثم لينتهي المر بسفك دمه الشريف وضربه بالسيف على قرنه لتتخضب لحيته الشريفة
بهذا الدم الطاهر وليلقى ربه وهو كذلك ويختصم بت من كل خصومه وهنالك يخسر المبطلون.
وفي جزئنا الخير سوف نكمل اللحظات الأخيرة لمسيرة شهادة يعسوب الدين وأمام المتقين سيدي ومولاي علي بن أبي طالب(ع) أن شاء الله إن كان لنا في العمر بقية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالمصادر :1 ـ الأمام علي من المهد إلى اللحد /تاليف العلامة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني.منشورات النور للمطبوعات. بيروت ـ لبنان2 ـ كتاب السلم واللاعنف بين النظرية والتطبيق في نهج الإمام علي. راجي أنور هيفا. المكتبة الحيدرية الرابط
http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/book_41/01.htm
3 ـ الأمام علي من المهد إلى اللحد /تاليف العلامة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني. الليلة العشرون. باب علي طريح الفراش .منشورات النور للمطبوعات. بيروت ـ لبنان.4 ـ انظر الكامل في التاريخ ج 2 ص 434 و تاريخ الطبري ج 4 ص 110 و مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 423.الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 132.مقاتل الطالبيين ص 17.شرح ابن أبي الحديد ج 6.ص 113،البحار ج 42 ص .2285 ـ القينة:الأمة،المنجد.6 ـ الفصول المهمة ص .132
7 ـ هذان البيتان في مروج الذهب ج 2 ص .423
8 ـ كذا في المصدر،و الصحيح (منه) .
9 ـ الفصول المهمة ص .133
10 ـ مقاتل الطالبيين ص .19
11 ـ تاريخ مروج الذهب ج 2 ص .424
12 ـ أي طلع الصبح.
https://telegram.me/buratha