سماحة السيد الشهيد محمد تقي الخوئي قدس سره .
ولد العلامة السيد محمد تقي الخوئي (قده) في التاسع من محرم الحرام سنة 1378 هـ الموافق 27/7/1958 م ، في النجف الأشرف مدينة العلم و الخير و العطاء، حيث مثوى باب علم النبي(ص) الامام علي بن أبي طالب(ع)، في أسرة شريفة من سلاة النبي الكريم(ص) ، ذو تاريخ علمي و فقهي طويل، غنية عن التعريف فقد نشأ في بيت الده و عني بتربيته الامام السيد ابوالقاسم الموسوي الخوئي(قده) ، الذي أراد لولده أن يكون علما بارزا من أعلام الامة الاسلامية، حيث ترسم فيه الطموح و حب الخير و العلم و الفضيلة، فمنحه الكثير من عطفه و رعايته و إرشاداته، كما منحه في ما بعد الكثير من ثقته، و هو مدرسته الاولى. و ورث من والده العظيم النباهة و السؤدد، كما غذّته والدته الطاهرة من إخلاصها و ورعها، فاجتمعت له الخصال الحميدة التي صنعت منه مثال الطالب المهذب المجد، ثم الاستاذ و العالم المجتهد الورع، و من بعد ذلك رائدا للخدمات الاجتماعية و الثقافية و الخيرية، في زمن صعب كثر فيه المتقاعسون عن خدمة الجامعة العلمية الدينية في النجف الاشرف، و قل فيه المخلصون للدين وخدمة الناس و الوطن.
دراسته
تلمذ الشهيد في مدارس النجف الاكاديمية، و التحق مبكرا بالحوزات العلمية الدينية ، و نهل من المنبر الصافي في مدرسة " دار الحكمة " التي أنشئت بأمر المرجع الديني الراحل الامام الحكيم رضوان الله تعالى عليه، حيث توفرت فيها المكانة العلمية بوجود أساتذة بارعين ، و أجواء التحصيل و الدرس و التعلم، و تخرّج منها بتفوق ملتحقا بحلقات دروس السطوح في الحوزة، و تلمذ علي يد أساتذتها الافاضل، و منهم سماحة المغفور له آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم (قده) الذي خصه بوافر عنايته إذ وجد فيه الكفاءة و المواهب الخلاّقة، فانصقلت شخصيته العلمية توجيهاً و أداءً، حتى أكمل دروس المتون العليا، و التحق بحلقات بحوث والده في مسجد الخضراء، حيث كان الامام يلقي دروسه، فنهل من ذلك المنبع الفياض، و أخذ يدوّن محاضرات الوالد الاستاذ و يعرضها عليه ليبدي ملاحظاته عليها و سرعان ما عرف الطالب الجديد في تلك الاوساط، بجده و اجتهاده ، و تفوقه على أقرانه، و بمثابرته و دقته و تمحيصه في قبول الآراء أو ردّها ، و ظهرت قابلياته و اشتهر صيته، حتى أصبح أستاذاً بارزاً يقصد مجلس درسه أعداد من أفاضل الطلبة للاستفادة منه، حيث بدء الشهيد بالقاء الدروس لطلاب مرحلة السطوح العليا في حوزة والده في مدرسة " دارالعلم ".
شهادته
بالاضافة الى ما كان يقوم به الشهيد من رعاية لشؤون المؤسسة، و اهتمام بأحوال الشعب العراقي المنهك، و الاصرار المستميت على المطالبة باطلاق سراح المعتقلين، و العمل المستمر في الدفاع عن حقوق أبناء الطائفة في شتى المجالات، كان أيضا يقوم بخدمة المرجع الاعلى سماحة آية الله العظمي السيد علي الحسيني السيستاني، لا سميا بعد أن تصدى سماحته شؤون المرجعية العليا.
فبعد وفاة والده سماحة الامام الخوئي (قده سره ) تعاظم دور الفقيد برعايته لشؤون المؤسسة في الخارج و السهر على تطورها، الا ان الاصعب كان دوره في رعاية شؤون الحوزة العلمية في النجف الاشرف و رجالها ، و الاهتمام بآلاف العوائل التي فقدت كفيلها نتيجة القتل أو السجن او التشريد و ما الى ذلك من مصائب.
كان النظام تنبه الى المركز الحساس الذي تسنمه الفقيد و الى نشاطه اللولبي حتى قبل رحيل والده، فتعرض الى الكثير من المضايقات التي ازدادت حدة، و ازداد معها عنف التهديدات لاسيما في الآونة الخيرة، حيث استدعي مرارا للمثول أمام الطاغية و أجهزته القمعية، حيث كان يتلقى تحذيرات و تهديدات من مواصلة نشاطاته في كل مرة يستدعى فيه الى بغداد للاستجواب من قبل رأس النظام الفاسد مباشرة، و أخرى من قبل أخيه المجرم " سبعاوي، مدير الامن العام " في حينه، و غيرهما من أزلام النظام، للتوقف عن نشاطاته المباشرة و طلبه المستمر من المسؤولين بالافراج عن المعتقلين و التخفيف من ضغوطهم على الحوزة و رجالها، و كذلك بالضغط على المؤسسة للتوقف عن نشاطاتها في المحافل الدولية لفضح جرائم النظام و المطالبة بحقوق أبناء الطائفة لكن الفقيد لم يكن ليعبأ بتهديدات السلطة التي اشتدت في الآونة الاخيرة، و استمر بالعمل و كان يحث العاملين في المؤسسة و جميع إخوانه المؤمنين للعمل الجاد و عدم اليأس من المصاعب و المتاعب في خدمة الدين والاهل و نتيجة للعمل الدؤوب الذي قامت به المؤسسة بدأت البرقيات من قبل الشخصيات و المؤسسات الاسلامية و الدولية ترد ضاغطة على نظام بغداد مطالبة بالافراج عن المعتقلين و إعطاء الحوزة العلمية الحرية في القيام بدورها العلمي و الديني و الحضاري، و المحافظة على استقلاليتها، كما طلبت بضمان سلامة العلماء و رجال الدين، و صدرت عن الكثير من هذه الشخصيات و المؤسسات و المنظمات الانسانية و الحقوقية و الدولية، و في مقدمتها مجلس الامن الدولي بيانات بهذا الخصوص. لذا لم يجرأ النظام العراقي و لفترة طويلة على اعتقال السيد الشهيد أو مسه بأذى مباشر، الى أن دبر النظام طريقة أخرى مألوفة له، تمثلت في حادث تصادم مفتعل لسيارة الشهيد و في شارع عريض ذي اتجاهين.
و كان الشهيد قد تقدم قبل ستة أسابيع من اغتياله بطلب رخصة للسفر الى خارج العراق، الا أن طلبه رفض بعنف، و استدعاه محافظ النجف قبل أسبوع واحد من اغتياله و هدده و توعده ، مشيرا الى أن الحكومة العراقية قادرة على الحاق الاذى به متى شاءت و بطرق مختلفة رغم وجود الحماية الدولية و البيانات الصادرة بشأنه ، و قد اتصل صديق للشهيد في نفس يوم الحادثة بالمؤسسة في لندن يطالبتهم بالتحرك الفوري لحمايته و اخراجه من العراق مشيرا الى أن وضعه حرج و خطير جدا.
و هكذا امتدت يد الغدر و الخيانة الى الشهيد، حين نصب المجرمون كمينا له على الطريق بين كربلاء و النجف، في طريق عودته من زيارة جده الامام الحسين عليه السلام، حيث سحقت سيارته شاحنة كانت تنتظره على جانب الطريق العام ليلا من دون إنارة، لكي لا يراها المقبل من الجهة المعاكسة، ثم أشعلوا النار في السيارة التي كانت تقل الشهيد و رفاقه، و أخذت سيارة أخرى تابعة لأجهزة المخابرات كانت في الانتظار سائق الشاحنة و رجعوا به الى كربلاء، حسب رواية العشرات من الشهود الذين كانوا في الطريق ساعة وقوع الجريمة.
و حين توقفت سيارات الزائرين لأخماد النيران، و أخراج الركاب من داخل السيارة ، كان الشهيد مصابا بنزف في رأسه ، وفي لحظات تم تطويق المنطقة بقوات من الجيش و الامن التي كانت بالانتظار قرب مكان الحادث، و تمت محاصرة النجف، و منع الناس من نقل المصابين الى المستشفى بحجة الانتظار لوصول سيارة الاسعاف، و بقى الشهيد ينزف في الشارع العام من الساعة الحادية عشرة و النصف من مساء يوم الخميس وقت وقوع الحادث و حتى الرابعة من فجر يوم الجمعة.
و هكذا فجع الاسلام بابن بار، حيث فاضت روحه الطاهرة فجر يوم الجمعة 12 صفر 1415 هـ الموافق 22 تموز (يوليو) 1994 م، ورقد الى جنب أبيه مجاورا امام المتقين على بن ابي طالب عليه السلام.
كما منع أي من أهل الضحايا من رؤية الجثث أو الاطلاع على أسباب الوفاة في المستشفى، و قد عجّل النظام بدفن الجثث في اليوم نفسه و من دون تشييع أو أية مراسيم معروفة و كانت الفاجعة التي أودت بحياة العلامة الشهيد السيد محمد تقي الخوئي، وقعت في أيام الذكرى السنوية الثانية لرحيل الامام الأب ، رضوان الله تعالى عليهما.
و كان مع الفقيد وقت وقوع الحادث، صهره و رفيق دربه العلامة الشهيد محمد أمين الخلخالي و طفله محمد الخلخالي الذي كان يبلغ من العمر ست سنوات، حيث استشهدوا جميعا كما استشهد معهم سائقه الوفي مناف عسكور (ابو حوراء) الذي كان يعاني بدوره من المضايقات المستمرة من قبل النظام.
و قد خلّف الشهيد زوجته العلوية كريمة آية الله السيد محمدرضا الخلخالي (فرّج الله تعالى عنه) و خمسة من العيال ولدين هما السيد جواد الخوئي و السيد علي الخوئي و ثلاث بنات ، فرحم الله فقيدنا الشهيد و رفاق دربه الذين نحتسبهم بعين الله تعالى قرابين للعقيدة و المبدأ، إنه نعم المولى و نعم النصير و إنا لله و إنا اليه راجعون.
1/5/13726/ تح: علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha