الشيخ عبد الحافظ البغدادي الخزاعي
ولادة الإمام الحسن {ع} هي جزء متصل من حياة رسول الله {ص} ولها امتدادات اجتماعية ودينية .. لان النبي {ص} حين كان في مكة المكرمة فترة نزول الوحي والتبليغ الجهادي للرسالة .. كانت هناك ردة فعل قوية أثرت في قلبه ..كان يواجه حرباً إعلامية من قبل رجال قريش، بهدف إقامة جدار نفسي بين رسول الله {ص} والمجتمع كمحاولة لفصله وإقصائه اجتماعياً تحت مبررات واهية مختلفة..... ومن وسائل هذه الحرب القذرة بثّ الشائعات والأضاليل الباطلة والمزيفة في أوساط الرأي العام القرشي والعرب منها: أنّ رسول الله {ص} أبتر لا عقب له ولا خلف. لان العرب قديما وحديثا يتفاخرون ويتباهون بكثرة أبناءهم.. بعكس البنت . وهذه لها أسباب كثيرة أهمها أن الولد يمكن أن يكبر ويحمل سيفا للدفاع عن القبيلة ، وثانيا يحمل اسم أبيه بعد موته ... يقال إن رجل مر في مدينة فوجدهم يشيعون جنازة .. فسال احدهم هل هذا الذي في الجنازة حي أم ميت..؟ فقال له صاحبه هو ميت في الجنازة ومن الطبيعي انه ما عرف إن سؤاله , هل له أبناء يحملون اسمه من بعده..؟؟ لذلك وجد المكيون هذه النقطة كأنها نقطة ضعف في النبي{ص} وانه ليس له عقب .. وإذا مات سينسى ذكره .. وكانوا يسمون الرجل الذي لا عقب له " ابتر" وسرت هذه الشائعة بين المجتمع المكي ممّا ترك في نفس رسول الله{ص} مما سببت له بعض الحزن والتأثر. ولكن الله سبحانه وتعالى أبطل هذه الأكذوبة، وبشّر رسوله بأن أعطاه الكوثر التي ستملأ الدنيا بنسل رسول الله {ص} فاطمة سيدة نساء العالمين وسيكون أبناؤه منها وهم اللذين سيشكلون امتداد الرسالة من بعده.في السنة الثالثة للهجرة في ليلة النصف من شهر رمضان المبارك جاء الوعد الإلهي بميلاد سيد شباب أهل الجنة ولد الإمام الحسن{ع} في مثل هذه الليلة ، لذا يحق لنا أن نؤكد إن فرحة رسول الله {ص} هذه الليلة لا توصف بمقدم أبي محمد الحسن{ع} هذه الليلة بعث في نفس الرسول {ص} الفرح والسرور بأن حقق الله وعده وردّ كيد الأعداء من مشركي مكة، كان صراخ الطفل أعظم صوت يمر على قلب نبي الرحمة.. شفتاه منفرجتان بالابتسامة وهو يقبل حفيده المجتبى .. السرور والسعادة ملأت بيت علي{ع} بميلاد سيدنا ومولانا الحسن {ع} وبقدر ما كان المولود يضفي على النبي {ص} السعادة والبشرى، كانت زعامات قريش وأقطاب مكة تعض الأنامل وتتقطع من الغيظ والحقد لفشل المؤامرة الإعلامية ضد رسول الله {ص} لذا تحمل الوليد الجديد جزءَ كبيرا من الحقد وهو طفل في بطن أمه .. وهذا يؤيد كلامنا إن الحديث عن الإمام الحسن هو حديث عن تاريخ النبي الاجتماعي والسياسي ..استقبلت المدينة المنورة ولادة إمام الأمة في النصف من شهر رمضان .. وأول المستقبلين للمولود هو رسول الله {ص} حيث راح يقبل ذلك الوجه المبارك ، لأنه سبطه الذي سيملأ عليه حياته .. وسيكون البذرة التي تمد الأجيال اسم النبي {ص} وسليل يحمل اسم محمد{ص} رمزا لقيادة الأمة ... ولان الله ادخر لهذا المولود منصباَ تكوينيا أن جعله وأخاه الحسين{ع} سيدا شباب أهل الجنة ...فلا غرابة لو رأينا الارتياح بوجه النبي {ص} وقيامه من ساعته إلى بيت الصديقة فاطمة الزهراء {ع} ونادى يا أسماء أين ولدي؟ فأسرعت به أسماء بنت عميس إلى جده المصطفى{ع} وقد لف في خرقة، فقدمته إلى جدّه فاستقبله والبشرى تلوح على وجهه، أخذه برفق، وضمه إليه وراح يلثمه بعطفه وحنانه، ثم بدأ يقطر أذنيه بالإيمان، ويعصر في روحه آيات التكبير والتهليل، فكان غذاؤه الأول: الله أكبر.. الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله.. أذّن في أذنه اليمنى ثم أقام في اليسرى، لتكون هذه الكلمات القصار، الكثيرة والكبيرة بمحتوياتها أنشودة الإمام الحسن {ع} لتترسخ في روحه وعقله ، ويجاهد من اجل بقاءها في كل مراحل حياته يحاول غرسها بكل ما لديه من جهد في أعماق النفوس لتكون أنشودة الحياة جيلاً بعد جيل. وجاء الإمام علي {ع} إلى فاطمة وسألها عن اسم المولود، أجابته: ما كنت لأسبقك، فأردف عليّ {ع} قائلاً: وما كنت لأسبق رسول الله {ص} فجاء الإمام علي إلى رسول الله يسال عن اسم المولود، فأجابه الرسول {ص} ما كنت لأسبق ربّي.فنزل جبرائيل من السماء وهو يبارك لأهل البيت مولدهم الجديد وينقل تهاني رب العزة ..ويختار له اسما ليس في العرب ولا في العجم شبيه ... سماه حسن ...جبرائيل{ع} كما يُنزل القران على نبيه آيات القران من ربه ، كما يبين الأحكام والعبادات ، جاء هذه الليلة على رسول الله {ص} ليبلغه أمر السماء في هذا المولود وقال له: إن الجليل يقرؤك السلام ويقول لك اسمه حسن، فكان كذلك...... ثم عق عنه كبشين وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره فضةً ً، وكنّاه (أبا محمد). ولا كنية له غيرها.مراحل حياته الشريفة :.... تنقسم حياة الإمام الحسن{ع} إلى ثلاثة مراحل ..المرحلة الأولى: مرحلة الطفولة قضاها كلها في حياة الرسول ورعايته وهي (8) سنوات. هذه الفترة حبلى بالأحاديث التي بينت شخصية الإمام الحسن ...فقد وردت أحاديث كثيرة في محبة الرسول {ص} للإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) والثناء عليهما، منها: "من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني"، .. هذا الحديث يبين وحدة السنخية ووحدة الرؤى ، فلا يمكن أن نحب رسول الله ونرفع اللافتات باسمه ونكره أولاده ... وهذا يجعلني لا اصدق الرواية التي تقول إن هارون العباسي بنا قبر الإمام علي {ع}في الوقت الذي هدم قبر الحسين{ع} والقران يقول { وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} فلا يصح أن يسب معاوية عليا على المنابر وفي نفس الوقت يصلي على النبي .. ورسول الله{ ص} يقول " يا علي من حبك فقد حبني ومن بغضك فقد بغضني " لذلك هذه الأحاديث الكثيرة المتكررة " التي يذكر فيها الحب والكره ويشرك معه علي والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام إنما يريد أن يبين وجه النفاق في الإسلام .. ورغم أحاديثه الواضحة " يا علي من سبك فقد سبني " يأتي معاوية ومن يسير على خطه يكيل السباب للإمام ومن يحب الإمام لحد الآن ... هذه هي غاية النبي {ص} يبين معادن المنافقين ... يقول "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، "ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا"، ويشير في ذلك أنهما إمامان في الثورة والصبر والصلح وغيرها. ومن الآيات النازلة فيه وفي أخيه الحسين (عليه السلام) آية التطهير والمودة والمباهلة والإنسان وغيرها .. ويأتي من يدعي الإسلام ويقول إن الحسين باغي خرج على إمام زمانه يزيد .. والمصيبة إن يزيد وأباه يذكرهم المفسرون إنهم الشجرة الملعونة في القران ..!! . حين يمر أبو هريرة على حياة الإمام الحسن{ع} يقول .. بعد وفاة رسول الله {ص} قدم راهب كبير من رهبان اليهود إلى المدينة ، قال: دلّوني على منزل فاطمة عليها السّلام. : فدلوه عليها، فقال لها: يا بنت رسول الله, اخرجي إليّ ابنيك. فأخرجت إليه الحسن والحُسين, فجعل يسألهما عن اسميهما، ثم صار يُقبّلهما ويبكي ويقول: والله اسمهما في التّوراة شُبّر وشُبير, وفي الإنجيل طاب وطيب. ثمّ سأل عن صفة النّبي {ص} فلمّا ذكروه, أعلن أسلامة وتشهد الشهادتين ، أليس هذا دليل على إن الحديث عن الحسن هو حديث عن النبي{ص} .. ولذا يصح أن نعتبر ولادتهما امتدادا لبقاء الإسلام واسم جدهما رسول الله {ص} ....ومن المواقف الكبرى للحسن زمن جده {ص} لما جاء أبو سفيان إلى عليّ {ع} فقال: يا أبا الحسن, جئتك في حاجة. قال: وفيمَ جئتني؟ قال: تمشي معي إلى ابن عمّك مُحمّد, فتسأله أن يعقد لنا عقداً ويكتب لنا كتاباً. لأنهم غدروا بما كتبوه مع الرسول {ص} في صلح الحديبية وقتلوا من قبيلة خزاعة ... فقال: يا أبا سفيان, لقد عقد لك رسول الله عقداً لا يرجع عنه أبداً, وكانت فاطمة من وراء السّتر، والحسن يدرج بين يديها وهو طفل من أبناء أربعة عشر شهراً, فقال لها: يابنت مُحمّد, قولي لهذا الطّفل يُكلّم لي جدّه, فيسود بكلامه العرب والعجم، فأقبل الحسن عليه السّلام إلى أبي سفيان وضرب إحدى يديه على أنفه والأخرى على لحيته, ثمّ أنطقه الله عزّ وجلّ بأن قال: يا أبا سفيان, قُل لا إله إلاّ الله مُحمّد رسول الله حتّى أكون شفيعاً. فقال علي {ع} : الحمد الله الذي جعل في آل مُحمّد من ذرّيّة مُحمّد المُصطفى نظير يحيى بن زكريا وآتيناه الحُكم صبيّاً. هذه الأجواء عاشها الحسن في كنف جده {ص} ....المرحلة الثانية: مع الإمام أمير المؤمنين {ع} وهي (29) عاماً.:.... عاش الإمام الحسن 8 ثمانية سنوات مع جده يضاف لها 29 تسع وعشرون سنة مع أمير المؤمنين ، هذا يعني انه قضى في مدرسة الرسالة متعلما بين النبوة والرسالة لمدة 37 سنة .تشبعت روحه بالقيم والنبل والشرف والعلم .. صحب أباه، وشاركه في أموره الاجتماعية والإنسانية وفي حروبه، وشارك في الجمل وصفين وسطر فيهما ملاحم بطولية.روي الإمام الباقر {ع} قال : بينما أمير المؤمنين {ع} في الرّحبة والنّاس عليه متراكمون, بين مستفت ومستعدى, قام إليه رجل فقال: سلم عليه فرد عليه الإمام السلام ثم صار ينظر أليه بتفحص وسأله ، مَن أنت؟ قال: أنا رجل من رعيتك .ز قال: ما أنت من رعيتي ولو سلّمت عليّ يوماً واحداً ما خفيت عليّ. فقال: الأمان يا أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين{ع} هل أحدثت في مصري هذا حدثاً منذ دخلته؟ قال: لا. قال: فعلّك من رجال الحرب؟ قال: نعم.قال: إذا وضعت الحرب أوزارها فلا بأس. قال: أنا رجل بعثني إليك معاوية متغافلا لك, أسألك عن شئ بعث فيه ابن الأصفر يعني ملك الروم .. قال فيه لمعاوية :" إن كنت أنت أحقّ بهذا الأمر والخليفة بعد مُحمّد, فأجبني عمّا أسألك" , فإنّك إذا فعلت ذلك اتبعتك, وأبعث إليك بالمال والجائزة. فلم يكُن عنده جواب وقد أقلقه ذلك, فبعثني إليك لأسألك عنها, فقال أمير المؤمنين {ع} قاتل الله ابن آكلة الأكباد, ما أضلّه وأعماه ومن معه. والله, لقد أعتق جارية, فما عرف كيف يتزوج بها, حكم الله بيني وبين هذه الأمة، قطعوا رحمي وأضاعوا أيّامي، ودفعوا حقّي وصغّروا عظيم منزلتي, وأجمعوا على منازعتي.... ثم نادى على أبناءه :..بالحسن والحُسين ومُحمّد فاحضروا. فقال: يا شامي, هذان ابنا رسول الله, وهذا ابني, فسأل أيّهم أحببت؟ فقال: أسأل ذا الوفرة ـ يعني الحسن عليه السّلام, وكان صبيّاً ـ فقال له الحسن {ع} : سلني عمّا تريد . فقال الشّامي: كم بين الحقّ والباطل؟... وكم بين السّماء والأرض؟ ...وكم بين المشرق والمغرب؟ ...وما قوس قزح؟ وما العين التّي تأوي إليها أرواح المشركين؟ ..وما العين التّي تأوي إليها أرواح المؤمنين؟... وما المؤنث؟ وما عشرة أشياء بعضها أشدّ من بعض؟ ... فقال الحسن بن عليّ {ع} : بين الحقّ والباطل أربع أصابع, فما رأيته بعينك حقّ، وقد تسمع بإذنيك باطلاً كثيراً. قال الشّامي: صدقت. قال: وبين السّماء والأرض, دعوة المظلوم ومدّ البصر, فمَن قال لك غير هذا فكذّبه. قال: صدقت ... قال: وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس, تنظر إليها حين تطلع من مشرقها وحين تغيب من مغربها. قال الشّامي: صدقت, فما قوس قزح؟ قال : لا تقُل قوس قزح, قزح اسم شيطان, وهذا قوس الله وعلامة الخصب وأمان لأهل الأرض من الغرق. وأمّا العين التّي تأوي إليها أرواح المُشركين, فهي عين يُقال لها: برهوت. وأمّا العين التّي تأوي إليها أرواح المؤمنين:يُقال لها: سلمى{ يعني سلام} . وأمّا المؤنث فهو الذي لا يدري أذكر هو أم أنثى, فإنّه يُنتظر به فترة , فإن كان ذكراً احتلم, وإن كانت أنثى, حاضت وبدا ثديها، وإلا قيل له: بُل على الحائط, فإن أصاب بوله الحائط, فهو ذكر, وإن انتكص كما انتكص بول البعير, فهي امرأة....وأمّا عشرة أشياء بعضها أشدّ من بعض: فأشدّ شئ خلقه الله عزّ وجلّ, الحجر، وأشدّ من الحجر, الحديد الذي يقطع به الحجر، وأشدّ من الحديد, النّار تُذيب الحديد, وأشدّ من النّار, الماء يطفئ النّار، وأشدّ من الماء, السّحاب يحمل الماء، أشدّ من السّحاب, الرّيح تحمل السّحاب، وأشدّ من الرّيح, المَلك الذي يرسلها، وأشدّ من المَلك, مَلك الموت الذي يميت المَلك، وأشدّ من مَلك الموت نفسه , الموت الأقوى الذي يميت مَلك الموت، وأشدّ من الموت, أمر الله ربّ العالمين يميت الموت...فقال الشّامي: أشهد أنّك ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله حقّاً, وأنّ علياً أولى بالأمر من معاوية.ثمّ كتب هذه الجوابات وذهب بها إلى معاوية، فبعثها معاوية إلى ابن الأصفر, فكتب إليه ابن الأصفر: يا معاوية, لِمَ ُكلمتني بغير كلامك وتجيبني بغير جوابك؟ أقسم بالمسيح ما هذا جوابك, وما هو إلا من معدن النّبوة وموضع الرّسالة, وأمّا أنت, فلو سألتّني درهماً ما أعطيتك..... هذه نقطة من حياة الإمام الحسن{ع} في زمن أبيه ....ومن المواقف التي لا يذكرها التاريخ للإمام الحسن في زمن أبيه {ع} هي شجاعته وبسالته في الحرب ودوره السياسي والتعبوي قبل بداية معركة الجمل وأثناءها .. المعروف إن الإمام الحسن{ع} قاتل مع أبيه في معركة الجمل، واشترك في الصفوف الأولى من ساحات الوغى " ويحضرني نص خاطيْ ينسبونه للإمام علي{ع} انه كان يقول احبسوا الحسن والحسين لأنهما أولاد رسول الله"..!!! هذا حتما من وضع الوضاعين .. فالذي يضحي بنفسه وبالزهراء وبجميع ما يملك للإسلام .. كيف يبخل بابناءه على السيوف..؟؟ وهذا ولده في كربلاء قدم الأبناء قبل أي شيء آخر ولو صحت عندهم هذه التوجهات لما جاء الإمام الحسين {ع} بولده زين العابدين{ع}.....كان أبو موسى الأشعري احد عمال عثمان على الكوفة. أبقاه الإمام علي{ع} في منصبه , ولكنه كان يعارض أمير المؤمنين ، خاصة في موقفه مع معاوية ، لأنه ساذج وغبي تمكن عمر بن العاص أن يمرر اكبر مؤامرة عليه في دومة الجندل حين خلع علياَ {ع} واثبت ابن العاص صاحبه .. حتى اعتبره التاريخ أغبى الدبلوماسيين العرب ..فقد استطاع الإمام الحسن{ع} أن يقنع أهالي الكوفة بعدالة القضية التي يحارب من اجلها علي بن أبي طالب {ع} ويرد آراء الأشعري إلى نحره.. وكان أبو موسى الأشعري والياً على الكوفة من قبل علي (ع) ، ولكنه على ما يبدو كان ميّالاً مع عائشة وطلحة والزبير في خروجهم على عليّ. فحينما دخل الحسنُ وعمارٌ الكوفة وجعلا يستنفران الناس لنصرة الإِمام قام أبو موسى ليعارضهم في ذلك ، فغضب عمار بن ياسر منه وأسكته. فقام رجل من بني تميم إلى عمار فقال : اسكت أيها الرجل الأجدع بالأمس كنت مع غوغاء مصر على عثمان واليوم تسكت أميرنا ! فوثب زيد بن صوحان وأصحابه من شيعة علي بالسيوف وقالوا : من لم يطع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فما له عندنا إلا السيف. فقال أبو موسى : أيها الناس ! اسكتوا واسمعوا كلامي ، هذا كتاب عائشة إلي تأمرني فيه أن أقرَّ الناس في منازلهم إلى أن يأتيهم ما يُحبون من صلاح أمر المسلمين. فقال له عمار بن ياسر : يا أبا موسى ! إن عائشة أُمِرَت بأمرٍ وأُمرنا بغيره ، أُمرت أن تقرَّ في بيتها من قبل الله تعالى ، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة ، فأمرتنا هي بما أُمرت ، وركبت ما أُمِرنا به ، وكثُرَ الكلام يومئذٍ. وتكلم زيد بن صوحان العبدي فقال : أيها الناس ، سيروا إلى أمير المؤمنين وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق راشدين. ثم وثب عمار بن ياسر فقال : أيها الناس ، إنه لا بد لهذا الأمر ولهؤلاء الناس من والٍ يدفع المظالم ويعين المظلوم ، وهذا ابن عم رسول الله (ص) يستنفركم إلى زوجة رسول الله (ص) وإلى طلحة والزبير ، فأخرجوا وانظروا في الحق فمن كان الحق معه فاتبعوه. وخرج الحسن (ع) وعمار من الكوفة ومعهما سبعة آلاف. واجتمع الناس بذي قار مع علي بن أبي طالب{ع} ستة آلاف من أهل المدينة ومصر والحجاز ، وتسعة آلاف من أهل الكوفة ، وجعل الناس يجتمعون حتى صاروا تسعة عشر ألف رجل ما بين فارس وراجل ، وسار علي ع عن ذي قار يريد البصرة في جميع أصحابه والناس يتلاحقون به من كل حدب وصوب. " كلام التميمي عن عمار رضي الله عنه بالأجدع" تطلق على مقطوع الأنف أو مقطوع الأذن ، وكان عمار قد قُطعت أذنه في حرب اليمامة...
المرحلة الثالثة: ولعلها الفترة الأكثر بريقا في حياته الشريفة لأسباب لوجود حوادث عظيمة وفتن كثيرة مزقت الأمة ..حين قاد معاوية الفتنة الكبرى ضد الإسلام ، وكانت الظروف السياسية والاجتماعية التآمرية تسير لصالح قوى الردة بقيادة ابن العاص وابن آكلة الأكباد .. أما عمره القيادي الشريف كان لمدة عشر (10) سنوات، من سنة (40) إلى (50) للهجرة لأنه بعد شهادة أبيه أصبح خليفة للمسلمين، وقد بدأت مخططات ومؤامرات الحكم الأموي ضده وضد صحابة أمير المؤمنين{ع} ، حيث استخدم معاوية مختلف الأساليب ضد أهل البيت {ع} وعقيدتهم مدرستهم وحارب شيعتهم.كانت فترة حرب لا توجد شبيه لها ، من الإرهاب ومطاردة وقتل وإقصاء .. ومن جانب آخر التنكيل بهم. ووضع الأحاديث في ذمهم، ومدح مخالفيهم، وفي تلك الفترة تم تعميم سب الإمام علي {ع} على المنابر،وبقيت في نفوس البعض إلى اليوم .. وبرزت في حياة الإمام الحسن{ع} ظاهرة شراء الضمائر وطلاب الدنيا بالأموال والمناصب ونشر العصبية الجاهلية، وتطبيع المسلمون على إسلام مزيف يتلاءم وسياسة الخليفة وسياسة الدولة ، وظهرت في زمن الإمام الحسن{ع} بعد إزاحته عن السلطة على يد معاوية انتشار المجون والفساد الأخلاقي بين المسلمين وجعله بديلا للإسلام المحمدي.لأجل أن يحقق معاوية مشاريعه وأطماعه وسيطرته من خلال هذه الأساليب ,قام به كله قبل ان يصل السلطة ، لذلك اضطر الإمام الحسن {ع} لمحاربته حفاظاً على الإسلام الأصيل. فقام بتجهيز الحملة العسكرية التي كان الإمام علي{ع} قد بدأ بإعدادها قبل استشهاده لمحاربة معاوية المتمرد والمنحرف عن خط الإسلام ودولته التي خلقت فتنة الإسلام في الأمة، وتحرّك الجيش باتجاه الشام، وحتى لا تعود الجاهلية من جديد بعد أن قدم المسلمون المخلصون كل التضحيات في سبيل الإسلام، ولكن عوامل جديدة حالت دون الاستمرار بالزحف،ومن هذه العوامل:1- خيانة بعض قادة الجيش الذين اشترى معاوية ضمائرهم بالمال.كككككككككككك2- انشقاق واختلاف أفراد جيش الإمام وتشرذمه وتخاذلهم وتراجعهم بفعل أساليب معاوية.3- محاولة بعض القادة تسليم الإمام الحسن (عليه السلام) حيّاً إلى معاوية.مما اضطر معه الإمام (عليه السلام) لتقبل الصلح بشروط منها:1- احترام دماء الشيعة، وعدم الاعتداء على حقوقهم.2- الامتناع عن سب الإمام علي (عليه السلام).3- التزام معاوية بالعمل بكتاب الله وسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).4- لا يعين معاوية أحداً بعده للخلافة وإنما يعود الأمر إلى الإمام الحسن، وإن كان ميّتاً، فالأمر يعود إلى أخيه الإمام الحسين {ع} ووافق معاوية على الشروط، وكلها تستهدف الحفاظ على الإسلام، ولكن بعد ذلك نقض الشروط والعهود كلها، وهذا ما قصده الإمام {ع} ويعلمه مسبقاً قبل الصلح حتى يعري حقيقة النظام الأموي للمسلمين آنذاك بل للتأريخ. ويظهر للناس إنهم بعيدون عنه الإسلام .. لا يلتزمون بكلمة أو عهد يكتبونه مع غيرهم ...بذلك مهد الطريق لثورة الإمام الحسين {ع} ، ولولا صلح الإمام الحسن {ع} لما كانت ثورة الإمام الحسين ، فالحسن هو الذي كشف زيف الاموين ، وجاء الحسين {ع} ليتخذ موقف من هذا الانحراف ... وللحسن مواقف وخطب كشف انحراف النظام الأموي عن التعاليم الإسلامية وأسقط القناع عنه وكشف معاوية عن حقيقته في خطابه في النخيلة بعد الهدنة: "إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم تعلمون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتآمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، ألا وأني منيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي ولا أفي بشيء منها له". وهذه أوضح ملف من ملفات أعداء أهل البيت{ع} وهو ملف قائدهم معاوية ذلك الملف الذي لا زال المسلمون يلعقون جراحاتهم وتنزف دمائهم منه...!! وإذا أردنا أن نعرف قيمة أي إنسان لا بد أن نعرف ماضيه ومواقفه المشرفة .. ودوره الذي لعبه في مواقف الحق والتضحية والإنسانية ... لا بد أن نتوجه هذه الليلة نحو الإمام الحسن بن علي {ع} لنستقرأ منه شذرات إنسانية شرفت وجه التاريخ الإسلامي .....
مواقف وحرص الإمام الحسن {ع} على مصلحة الإسلام... هذه المواقف تتجلى في عهود ثلاث...العهد الأول : موقفه الدفاعي في عهد عثمان :... وتتوزّع مواقفه في هذه المرحلة على نقطتين هما :النقطة الأولى :... مشاركته في الكثير من حروب الدفاع عن بَيضة الإسلام ، وفي كثير من الفتوحات الإسلامية أيام خلافة عثمان ، منطلقاً من مقولة أبيه أمير المؤمنين {ع} في رعاية مصلحة الإسلام العليا ، التي كرَّرها في أكثر من موضع : ( وَالله لأسَلِّمَنَّ ما سَلمَتْ أمُور المسلمين ، ولم يَكن جَورٌ إلاَّ عليَّ خاصة ) .تذكر الروايات انضمامَ الإمام الحسن {ع} إلى جنود المسلمين الذين اتَّجهوا إلى أفريقيا بقيادة عبد الله بن نافع ، وأخيه عقبة ، في جيش بلغ عشرة آلاف مجاهد كما ذكر ابن خلدون في كتاب( العِبَر )... وتطلَّع المسلمون إلى النصر والفتح متفائلين بوجود حفيد الرسول {ص} وحبيبه يجاهد معهم ، وكانت الغزوة ناجحة وموفقة كما يصفها المؤرّخون .وجاء في تاريخ الأمم والملوك في حوادث سنة ثلاثين للهجرة ، أن سعيد بن العاص غزا خراسان ، ومعه حُذيفة بن اليمان وجماعة أصحاب رسول الله {ص} وكان من ضمن الجيش الحسن والحسين ( عليهما السلام ) في منطقة جرجان .. فصالحوه على حدِّ تعبير الطبري على ساحل البحر ، ولكن قاتلهم أهلها قتالاً شديداً ، حتى صلى المسلمون صلاة الخوف ، وأخيراً انتصر المسلمون في تلك المناطق كما نصَّ على ذلك كثير من المؤرّخين .
المجال الثاني :موقفه {ع} من خلافة عثمان وما آلت إليه...وهو نفس موقف أبيه أمير المؤمنين {ع} من الثورة من جانب وحقوقها التي هدرها ولاة عثمان ، وبين عدم قتل الخليفة وما يسبب ذلك من فتنة .. فعبَّر فيه الإمام عن كامل الطاعة والالتزام بأوامر أبيه وتوجيهاته في تلك الفترة العصيبة والفتنة العمياء ، وخصوصاً بعد أن ملَّ المسلمون سياسة عثمان وأعوانه وعمَّاله ووصل الوضع إلى حافة الانفجار .... تنقل لنا كتب التاريخ وقائع تلك الفترة ، ومنها أنه بذل الإمام أمير المؤمنين جهودا ووساطات بين عثمان والثوار ولكن تعنت الخليفة ومستشاريه، أدت إلى فشل كل المحاولات التي بذلها المسلمون لإصلاح سياسة عثمان وأعوانه وعماله ، وخوفهم على دينهم ودنياهم ، زحفوا إليه من جميع الأقطار ، ودخلوا في مفاوضات معه يطالبونه بإصلاح ما أفسده هو وعُمَّاله ، أو بالتخلي عن السلطة .وكان أمير المؤمنين وولده الحسن ( عليهما السلام ) وَسيطَين بين الخليفة ووفود الأمصار في محاولة للإصلاح ، ووضع حدٍّ للفساد الذي شمل جميع مرافق الدولة . ومما لا شك فيه أن أمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين {ع} كانوا كغيرهم من خِيار الصحابة ناقمين على تصرّفات عثمان وأنصاره وعُمَّاله ، ومع ذلك لم يبلغ بأمير المؤمنين {ع} الحال إلى حدود الرضا بقتله والتحريض عليه .بل وقف منه موقفاً سليماً ، وأراد من عثمان أن ينتهج سياسة تتَّفق مع منهج الإسلام ، وأن يجعل حدّاً لتصرَفات ذَويه وعُمَّاله الذين أسرفوا في تبذير الأموال واستعمال المنكرات ....
العهد الثاني : في عهد أبيه أمير المؤمنين {ع}: ومن مواقفه المشهودة في هذه المرحلة ما يأتي :
الموقف الأول :دوره ( عليه السلام ) في حرب الناكثين المعروفة بـ ( حرب الجمل ) ، وهي الحرب التي استَعَرت في إثر تمرّد طلحة والزبير في البصرة ، ورفعهما السلاح بوجه أمير المؤمنين {ع} وكان ذلك الدور والحرب بقيادة عائشة .وقد تمثَّل دور الإمام الحسن ( عليه السلام ) فيها بأمرين أساسيين :الأمر الأول :لما توجَّه أمير المؤمنين {ع} إلى ( ذِي قَار ) ونزلَ فيها ، أرسَلَ الحسنَ {ع} إلى الكوفة مع عَمَّار بن ياسر ، وزيد بن صوحان ، وقيس بن سعد ، لِيستَنفروا أهلها لمساعدته على طلحة والزبير . وكان أمير المؤمنين {ع} قد أرسل قبلهم وفداً ولكن هذا الوفد لم يحقق الغاية ، بسبب معارضة أبي موسى الأشعري الذي يميل للاموين ويكره أهل البيت {ع} ، ولم يستجب لطلب الوفد الذي أرسله أمير المؤمنين {ع} باعتبار إن الإمام يحارب زوجة النبي {ص} والذي يخرج معه إنما يشاركه في هذه التوجهات ، وانطلت الفكرة على اغلب الناس فقعدوا عن نصرة الحق المتمثل بالإمام علي بن أبي طالب{ع} . ولكن حين وصل الوفد الذي يضم الإمام الحسن وعمار بن ياسر .. تغير الموقف الشعبي في الكوفة بدرجة كبيرة .. يقول المؤرخون استجاب الناس لنداء الإمام الحسن {ع} وخرج معه إلى البصرة اثنا عشر ألفاً ، في هذه الحادثة لا يقف المؤرخون عندها كثيرا ... وتحليل الموقف ... وصلت معلومات من الوفد الأول الذي أرسله الإمام علي{ع} إلى الكوفة تفيد أن الناس تقاعسوا عن نصرته ، فأرسل على الإمام الحسن وعمار وجماعة وأرسلهم إلى الكوفة ليحثوا الناس في الاشتراك ضد الناكثين... "" حين خرج الوفد من المعسكر متوهجا للكوفة ، قال الإمام كلمة كبيرة جدا... قال : سيأتي منهم اثنا عشر ألفا "" أي اخبر عن تغير المدينة واخبرهم بعدد المشاركين معه منهم ..وهو في ( ذي قار ) ، كما جاء في رواية الشعبي عن أبي الطَفيل... يقول أبو الطفيل :والله لقد قعدتُ على الطريق ، وأحصيتُهم واحداً واحداً ، فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً ...وفي رواية أخرى عن ابن عباس أقوى من هذه الرواية ... يقول : قلت له سيدي لو انك لم تذكر العدد..!! قال: فالتفت لي وقال يا ابن عباس " أتشك في ذلك هذا عهد من أخي رسول الله {ص} اخبرني عنه وبتفاصيله وسيأتي من أهل الكوفة اثنا عشر الف " يقول بعد أيام بدأ الناس يتقاطرون على معسكر الإمام في ذي قار ، وكان يجري لهم جرد ، في اليوم المقرر للزحف نحو البصرة بقي من العدد واحد ، فجمع الناس أغراضهم ورفعوا خيامهم وحملوها على دوابهم ، والإمام {ع} في خيمته ، دخلت عليه وأخبرته إن الناس متهيئون للسفر وقد استكملوا أمرهم ... {ولم اخبره بنقص العدد الذي ذكره اثنا عشر الف} ، قال ابن عباس : التفت ألي وقال أمهلني ساعة انتظر مواليا سيأتي ليكمل العدد الذي ذكرته..!!!! يقول انتظرنا وإذا بحبة العرني يأتي على ناقة هزيلة ، سال الناس أين عليا..؟؟ قالوا في خيمته ، فدخل عليه وقال سيدي أنا أبايعك على الموت , أريد أن تقبلني معك... فقال له الإمام أنت معي في الدنيا والآخرة .. ثم قوض خيمته وأمر الناس بالتحرك...!! ... هذه الكرامة الحيدرية كان سبب مقدماتها الإمام الحسن وعمار عليهما السلام .....
الأمر الثاني :شارك الإمام الحسن ( عليه السلام ) في حرب الجمل إلى جنب أمير المؤمنين {ع} وكان يحمل رايته في البصرة .. والمعروف ان الراية تمثل الدولة والقبيلة ، وفي الحروب تعطى لشخصيات مهمة ، ولنا بتاريخ كربلاء صورة واضحة عن حملة رايات أبي عبد الله{ع} وعلى رأسهم العباس {ع} .. في البصرة حمل الإمام الحسن راية أبيه وانتصر بها على الناكثين ، وهذا ما أجمع عليه المؤرخون .
الموقف الثاني : دوره في حرب القاسطين المعروفة بـ ( حَرب صِفين ) ، وهي حرب البغاة وأهل الضلالة والفتنة في الشام التي قادها معاوية بن أبي سفيان خروجاً على الإسلام والانتقام من آل بيت نبي الله {ص} متمثلة في خلافة أمير المؤمنين {ع} .. وهو يرى الفتنة تستعر في معسكر رجل كان أبوه يحشد الجيوش ضد جده رسول الله {ص} واليوم ضد أبيه ، لذلك كانت مشاركته عقائدية تتمثل الدفاع عن الإسلام والوقوف ضد الباطل المتمثل بال أبي سفيان ..هذا دور الإمام الحسن في هذه المعركة العقائدية ..كَدَوره في حَرب الجمل ، بل زاد عليه ، حيث قام ( عليه السلام ) بتَعبِئة المسلمين للجهاد ، وبذل جهده لإحباط مؤامرة التحكيم ، والاحتجاج على المنادين به .
العهد الثالث : في أيام خلافته : بعد شهادة أبيه وحصول البيعة له في الكوفة والبصرة ، كما بايعه أهل الحجاز واليمن وفارس ، وسائر المناطق التي كانت تدين بالولاء والبيعة لأبيه ( عليه السلام ) .لما بلغ نبأ البيعة معاوية اجتمعَ بِكبار أعوانه ، وشرعوا بَحَبكِ المؤامرات ورسم الخطط لنقض بيعة الإمام الحسن ( عليه السلام ) وتقويض خلافته .وعندما نستقرئ سيرة الإمام الحسن {ع} ومواقفه إزاء هذه المؤامرات والفتن تَتَجَسَّد أمامنا قِمَّة الفناء في الله سبحانه ، واتِّخاذ مصلحة الإسلام العليا مقياساً حاسماً لمواقفه ومواجهاته ، مضحِّياً بكل شيء دون ذلك .ويمكننا الإشارة إلى ثلاث حالات قد مثّلت كُبرَيَات مواقفه ( عليه السلام ) الرسالية المشهودة في هذا السبيل :
الحالة الأولى : رأي الإمام {ع} ابتداءً أن مصلحة الإسلام العليا تقوم بالتعبئة لحرب الباغية معاوية بن أبي سفيان لأنه رأس الأفعى وكل فتنة في جسد الأمة الإسلامية ، .فاتخذ قراره هذا بعد مُراسلات متبادلة بينه وبين معاوية ، أتمَّ فيها الحُجَّة عليه ، وردَّ عليه محاولاته لإغرائه بالأموال والخلافة من بعده .وكان آخر ما كتبه الإمام{ع} رادّاً عليه :( أمَّا بعد : فقد وصلني كتابُك ، تذكر فيه ما ذكرتَ ، وتركتَ جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتَّبِع الحقَّ تعلم أنِّي من أهله ، وعليَّ إثم أن أقول فاكذب ، والسلام ) .لما وصل كتاب الإمام {ع} إلى معاوية أدرك أن أساليبه ومغرياته لم تغيِّر من موقفه شيئاً ، فكتب إلى جميع عُمَّاله في بلاد الشام :( أمَّا بعد : فإني أحمد إليكم الله ، الذي لا إله غيره ، والحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوِّكم ، وقتلة خليفتكم .إن الله بلطفه وحُسن صنيعه أتاح لِعليِّ بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله وقتله ، وترك أصحابه متفرِّقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبِلوا إليَّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم ، وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم - بحمد الله - الثار ، وبلغتُم الأمل ، وأهلك اللهُ أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله ) .فاجتمعت إليه الوفود من كل الجهات وسار بهم باتِّجاه العراق .يعني حشد جيش لغزو الكوفة وقتل الإمام وأهل بيته الكرام وشيعتهم البررة ....لما علم الإمام الحسن{ع} بذلك صعد المنبر ، فأثنى على الله وصلى على رسوله {ص} ثم قال :( .. بلغَني أن معاوية كان قد بَلَغه أنَّا أزمعنا على المسير إليه ، فتحرَّك نحونا بجنده ، فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة ، حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وتَرَون ) . أي عمل تعبئة عسكرية جماهيرية ...الحالة الثانية :رأى الإمام ( عليه السلام ) أن مَدار مصلحة الإسلام العليا بعد خُذلان جيشه له وتفرقه عنه أن يقوم بعقد مُعاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان . وفي هذا السياق ينقل لنا المؤرخون أن معاوية لمَّا أرسل خَيله لقتال الجيش الذي يقوده عبيد بن عباس ردَّها أهل العراق على أعقابها .وبمجيء الليل أرسل معاوية رسالة إلى عبيد الله جاء فيها :( إن الحسن قد أرسلني في الصلح وسلَّم الأمر لي ، فإن دخلت في طاعتي الآن تكن متبوعاً ، خيرٌ لك من أن تكون تابعاً بعد غد ، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم ، أعجِّل لك في هذا الوقت نصفها ، وعندما أدخل الكوفة أدفع لك النصف الثاني ) .ويدَّعي أكثر المؤرخين أن عبيد الله انسلَّ من قاعدته ، ودخل عسكر معاوية ومعه بضعة آلاف ممن كانوا معه ، فوفَّى له بما وعده .وكان موقف عبيد الله من جملة العوامل التي تسبَّبت في تفكّك جيش الإمام الحسن ( عليه السلام ) وتخاذله .ونشط أنصار معاوية في نشر الترهيب والترغيب في صفوف الجيش ، ولم يتركوا وسيلة لصالح معاوية إلاَّ واستعملوها .واستَمَالوا إليهم حتى رؤساء ربيعة الذين كانوا حِصناً لأمير المؤمنين {ع} وشاعت الخيانة بين جميع كتائب الجيش وقبائل الكوفة ، وأدرك الإمام ( عليه السلام ) كل ذلك ، وصارحهم بالواقع الذي لم يَعد يَجُوز السكوت عنه ، فقال ( عليه السلام ) :( يا أهل الكوفة ، أنتم الذين أكرَهتُم أبي على القتال والحكومة ، ثم اختَلَفتُم عليه ، وقد أتَاني أنَّ أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه ، فَحَسبي منكم ، لا تَغرّوني في ديني ونفسي ) .وكان معاوية على ما يبدو حريصاً على ألا يتورط مع الإمام ( عليه السلام ) في الحرب ، وإن كان مطمئنّاً لنتائجها ،لان الشيعة لن يسكتوا وسيعقبها ثورات ودماء كما حدث في كربلاء , فعرض عليه فكرة الصلح في أولى رسائله ، وترك له أن يشترط ويطلب ما يريد .فراح يُردِّد حديث الصلح في مجالسه ، وبين أنصاره في جيش العراق ، ويأمرهم بإشاعته .وكاتَبَ القَادة والرؤساء به ليصرف أنظارهم عن الحرب ، ويَبُثّ بينهم روح التخاذل والاستسلام للأمر الواقع .وكانت فكرة الصلح مُغلَّفَة بِلَونٍ ينخذع له الناس ، ويفضِّلونه على الحرب والقتال .
فلقد عرضها في رسالته الأولى على الإمام الحسن ( عليه السلام ) وأشاعها بين أهل العراق ، على ألاَّ يقضي أمراً من الأمور بدون رأيه ، ولا يعصيه في أمر أُريدَ به طاعة الله ورسوله ، فترك له مع ذلك أن يقترح ما يريد .كلّ ذلك لِعِلمه بأنها ستلقى بهذه الصياغة قبولاً من الكثيرين ، وسيتبع ذلك انقسام في صفوف الجيش يضطرّه إلى الصلح ، لأنَّه أهون الشرَّين .لم يكن الإمام ( عليه السلام ) يفكِّر بصلح معاوية ، ولا بمُهَادَنَته ، غير أنه بعد أن تكدَّست لديه الأخبار عن تفكّك جيشه ، وانحياز أكثر القادة لجانب معاوية ، أراد أن يختبر نواياهم ، ويمتحن عَزيمتهم .فوقف بمن كان معه في ساباط ، ولوَّح لهم من بعيد بالصلح ، وجمع الكلمة فقال : فَوَاللهِ إِنِّي لأرجو أن أكونَ أنصحُ خلقَ الله لخلقه ، وما أصبحت محتملاً على أحدٍ ضغينة ، ولا مُريداً له سوءاً ولا غائلة .ألا وإِنَّ ما تكرهون في الجماعة خيرٌ لكم مِمَّا تُحبّون في الفرقة ، ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردّوا عليَّ رأيي ، غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإيَّاكم لما فيه مَحبَّتِه ورضاه ) .وهنا تنقَّح لدى الإمام {ع} موضوع مصلحة الإسلام العليا وان هذا ديدن أهل البيت لا يعيرون لمصالحهم أهمية لذلك عمل بدفع أعظم الضررين :أولهما : المجازفة والاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فيها فناؤه وفناء أهل بيته {ع} وبقية الصفوة الصالحة من أصحاب رسول الله وأصحاب أمير المؤمنين وأصحابه هو ( عليهم السلام ) وقد يقع في الأسر ويعفي عنه معاوية وبذلك يعادل موقف رسول الله بإطلاق معاوية وأهله يوم الفتح ، فيغطي معاوية على فضل رسول الله {ص} بإطلاق ولده.!!.
ثانيهما : القبول بالصلح ، وحقن دماء أهل بيت النبوة والعصمة ( عليهم السلام ) وبقية الصفوة الصالحة من شيعتهم ، ليحملوا لواء الدعوة لآل محمد {ص} ويجاهدون بالدفاع الثقافي والإعلامي وعدم ترك الساحة فارغة للبيت الأموي يخططون دينا جديدا للإسلام من تحريف وتزوير دين الله وسُنَّة رسوله {ص} ، ليتَّصل حَبلُهم بحبل الأجيال اللاحقة ، ولتصل إليها معالم الدين الحق ، ولتدرك حق أهل البيت {ع} وباطل أعدائهم .ولهذا اضطرَّ الإمام الحسن {ع} للصلح .
الحالة الثالثة :وجد الإمام أن عليه - في سبيل بيان الأسباب والعلل التي ألجأته إلى عقد معاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان - أن يكشف الحقائق ، ويُظهرها للتاريخ وللمسلمين ويعري تلك الفئة الباغية ، لتتمَّ الحُجَّة البالغة في إدراك حقيقة المصلحة الإسلامية العليا الكامنة في هذا الصلح ، وقد تواصلت بياناته وخطاباته في هذا السبيل إلى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة . وممَّا يروى في ذلك أنه بعد أن تمَّ التوقيع على الصلح ، قدم معاوية إلى الكوفة للاجتماع بالإمام الحسن {ع} ، حيث ارتقى معاوية المنبر ليعلن متحدِّياً كل المواثيق والعهود والأعراف أنَّه يسحق بقدميه كل الشروط التي صالح الحسن{ع} عليها .وخاطب الناس المُحتَشَدة في مسجد الكوفة قائلاً :( والله ، إنِّي ما قاتلتكم لتصلّوا ، ولا لِتصوموا ، ولا لتحجّوا ، ولا لتزكّوا ، إنكم لتفعلون ذلك ، وإنما قاتلتكم لأتآمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك ، وأنتم له كارهون ) .ثم قال :( ألا وإِنَّ كلَّ دم أصيب في هذه الفتنة فهو مَطلُول ، وكل شرط أشرطته فَتَحْتَ قَدميَّ هاتين ) .
بعد أن أعلن معاوية برنامجه التكفيري ضد الإسلام تَمَلْمَل أصحاب الإمام الحسن {ع} وأتباعه ، فتجرأ بعضهم عليه ، ووصفوه بـ ( مُذِلِّ المؤمنين ) .فصبر {ع} عليهم كثيرا لتلون مواقفهم وكان صبراً جميلاً ، وطفقَ يبيِّن لهم الحقائق التي خُفِيت عنهم في أجواء الانفعال ، والعاطفة ، والغضب ، الذي اعتراهم من تحدِّي معاوية لهم ، ونقضه لوثيقة الصلح ، وتوجهينه للإمام الحسن وأصحابه .وممَّا روي عنه أنه قال لبشير الهمداني عندما لامَهُ على الصلح :( لَسْتُ مُذلاًّ للمؤمنين ، ولكنِّي مُعزّهم ، ما أردتُ لِمُصَالحتي إلاَّ أن أدفع عنكم القتل ، عندما رأيت تَبَاطُؤَ أصحابي ، ونُكُولهم عن القتال ) .وهذه من اكبر المشاكل التي مرت بتاريخ الإمامة السياسي....ولقد أشار الإمام الباقر {ع} إلى هذه المَصلحة الإسلامية العُليا في صلح الإمام الحسن{ع} مع معاوية بن أبي سفيان بقوله :( والله ، لَلَّذي صنعه الحسن بن علي ( عليهما السلام ) كان خيراً لِهَذه الأمَّة مِمَّا طَلعت عليه الشَّمس ) .......................الحقيقة أنّ الكثيرين لم يلتفتوا إلى أمر هامّ، وهو أنّ معارضتهم للإمام هي في حكم معارضتهم للقرآن الكريم، الذي يعرّفنا بعصمة أهل البيت عليهم السلام، وأنّ ما يقرّرونه من صلح أو حربٍ أو أمرٍ أو نهيٍ، فهو أمور مبرمة مقدّسة. وأنّ اعتراضهم هو ردّ على رسول الله إذ يقول: الحسن والحسين إمامان إن قاما وان قعدا». لكنّ الناس يتسرّعون بالحكم دون رويّةٍ أو تفكيرٍ.وشعر الناس بالذل والهوان حين توجّه معاوية بعد ظفره نحو الكوفة، معقل أمير المؤمنين وأصحابه، وهناك وقف على منبر مسجدها الكبير، يملأ الغرور أعطافه، وشرع يتناول أصحاب عليّ (ع) بكلامٍ بذيءٍ غير لائق، ثمّ تناول الخونة الذين باعوا دينهم بدراهم معاوية ضد أمير المؤمنين وأبناءه{ع} بتقريعه رؤساء القبائل، فغدر بهم وأهانهم بعد أن كان قد أبرم معهم المواثيق، وصار يحدّدهم بالاسم والإشارة يذكر أسماءهم وما قدموه من خيانة لإمامهم ، اصبوا في وضعٍ فاضحٍ ذليلٍ، لا يحسدون عليه.وهذه هي عاقبة الخيانة على أيّ حالٍ، فالذّين أقدموا على خيانة الإمام (ع) لم يظفروا حتّى بعطفٍ بائسٍ من معاوية. توجّه الإمام وأهله بعد هذه الأحداث نحو يثرب، حيث استقرّوا هناك، وتسلّم بنو أميّة حكم الكوفة، وفي مكان عليّ وعلى منبره حلّ زياد ابن أبيه ومن بعده ابنه، واضطرّ أولئك الذين كانوا ينتحلون الأعذار لتبرير مواقفهم من حكم أميرالمؤمنين عليّ (ع)، ورفضوا قبول حكم العدل والتقوى من ابنه بعده، اضطرّوا لأن يحنوا هاماتهم تحت سيوفٍ ملطّخة بالدّماء، وعرفوا - ولكن متأخّرين - قدر النّصائح التي رفضوها، كما عرفوا أيّ بلاءٍ جلبوه لأنفسهم، وندموا على ما قدّمته أيديهم، لكنّ الندّم المتأخّر لا خير فيه.بعدها وقد رجع الإمام للمدينة، ولكن معاوية دس له السمّ على يد زوجته جعده بنت الأشعث بن قيس الكندي، وقال لها: إن قتلتِه بالسمّ فلك مائة ألف وأزوجك يزيد ابني، وقد دسّت له السمّ، فاستشهد الإمام ...... في (28) صفر سنة (50) هجرية ودفن في البقيع في المدينة. وعندما ألقت الأمة نظرة على حدثين { ساباط وكربلاء } أدركت بوضوح جاهلية الأمويين وشاهدت إن الإمام الحسن {ع} ارتضى بالسلم في وقت لم يف معاوية بأي عهد شرطه على نفسه ونقض كل المواثيق التي أعطاها لله ورسوله .. وهو كاذب في دعواه .. لا يلتزم بكلمة مما يقول ، ثم جعلها وراثة بين أبناءه...ودس السم للحسن لقتله .. ونحن نعيش ببركة ثورة الإمام الحسن {ع} السلمية وثورة الحسين {ع} المدوية ...
14/6/2013
https://telegram.me/buratha