الجحيم اليومي هو ما يدفع الناس غالباً إلى الإمتعاض والغضب من حكوماتها وأنظمتها، وهذا الجحيم قد يختلف من صورة إلى أخرى، لكنه قد يتراكم لتكبر دائرة الغضب عند الناس وتنفجر على صورة ثورة. فالثورة لا تكون إلا عند تراكم الظلم، التخلف، الفقر، البؤس والإستبداد، والمس بكرامة الإنسان وإنعدام الحرية. الثورة لا تكون إلا عندما تتوفر البيئة المناسبة لها، فالناس لا تميل إلى الثورة والحرب، بل الجميع يود العيش بأمان وطمأنينة وهدوء مادام العدل والقانون حاكم ومُحترم ويراعي حاجات الناس المشروعة والتي كفلتها لهم شريعة السماء.
البيئة الثورية كانت متوفرة وبإمتياز في العصر العباسي الذي ارتسم بالظلم بجميع أشكاله وألوانه، ورغم أن الكتب المدرسية التي درسناها في المدارس تحاول ان ترسم صورة وردية جميلة للعهدين الأموي والعباسي، إلا أن الشمس لا يمكن أن تغطى بغربال، فالثورات التي توالت في العهد الأموي والعباسي تبين وتظهر مدى حاجة الناس في ذاك الوقت للتغيير، ورغم أن الثورة انتصرت على الدولة الأموية إلا أن وجود ثغرات وأخطاء أدت لخطفها، ليقوم نظام متسلط مستبد مكان آخر، ومن الطبيعي وجود ثغرات في أي ثورة، فالناس تتفق على الحاجة إلى التغيير ولكن بعد أن تزيل عقبة التغيير تختلف في الصيغة التي يجب أن تكون بديلاً عن الصورة السابقة، أو بالأصح أن غياب صورة أو نموذج النظام المثالي البديل عن النظام الأموي هو الذي سهل على العباسييون وصولهم للحكم، وما يحدث اليوم في ثوراتنا في العالم العربي وما حدث سابقا بعد عهد الاستعمار البريطاني هو أقرب لتلك الصورة، والغريب أن كلى النظاميين الأموي والعباسي تزينوا بعباءة الإسلام وهم أبعد الأنظمة عن الشريعة الإسلامية.
الدولة العباسية التي أبتدأت عهدها بخلافة عبدالله السفاح والذي استمر فترة قصيرة لا تزيد عن أربع سنوات كانت مليئة بلون الدم، وحتى ولاته لم يكونوا اقل منه إستبداداً، فبعد أن تولى أبو العباس السفاح الحكم وصار أوّل حاكم عباسي قام بتعيين الولاة في البلاد الإسلامية فعيّن عمه داود بن علي بن العباس والياً على يثرب ومكة واليمن. وقد خطب داود أول توليه المنصب خطاباً في أهالي المدينة وتضمن خطابه التهديد والوعيد بالقتل والتشريد قائلاً:أيها الناس أغركم الامهال حتى حسبتموه الإهمال، هيهات منكم، وكيف بكم ؟ والسوط في كفّي والسيف مشهر. وأول ما قام به عم السفاح أن قتل مولى الإمام الصادق (عليه السلام) المعلى بن خنيس (رضوان الله تعالى عليه)، وكان لمقتل المعلى أثره في قلب الإمام (عليه السلام) حتى أن جن الليل قال (عليه السلام) مناجياً ربه وداعياً على داوود بن علي «اللّهم ارمه بسهم من سهامك فأفلق به قلبه» فأصبح وقد مات داود والناس يهنئونه بموته.
و بعد هلاك السفاح خلفه المنصور الدوانيقي، ولم يكن المنصور اقل وحشياً وإجراماً من السفاح، فأسرف في القتل وإباحة الدماء، وكان يتخلص من كل شخص قد يشكل خطر على سلطته وخلافته، حتى دس السم إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فقتله، ليوصي بالخلافة لخمسة ،احدهم ابنه عبــد الله المعروف " بالأفطــح "، والثاني ابنه موسى (عليه السلام)، والثالث " محمد بن سليمان " الوالي العباسي على المدينة، والرابع زوجته " حميدة " والخامس الخليفة " المنصور العباسي " المعروف بالدوانيقي.
كانت التشكيلة غريبة ولكن حين ظهرت الأسباب التي دعت الإمام إلى ان يجعل أوصياءه هؤلاء الخمسة تبينت الحكمة من ذلك.
فحينما سمع المنصور العباسي بموت جعفر الصادق (عليه السلام) كتب رسالة إلى واليه على المدينة محمـد بن سليمان جاء فيها :" وان كان أوصى إلى رجل بعينه فقدّمه واضرب عنقه "، فأجابه سليمان : " أن أوصياءه خمسة فأيهم اقتل " ؟ وحينما قرأ المنصور الجواب قال : " ليس إلى قتل هؤلاء سبيل".
و من هنا يمكن لنا تصور النظام الوحشي لطريقة الحكم العباسي الذي عاصره الإمام الكاظم (عليه السلام)، مع ذلك كان (عليه السلام) يمارس عملية بث الوعي الفكري بين الناس، وبناء الطاقات الإيمانية والكوادر القيادية الرسالية التي يمكنها أن تأخذ الأمة إلى بر الأمان، حتى صار وجود الإمام أمراً ثقيلا على السلطة العباسية لقوة تأثيره في الأمة واتساع الامتداد الشيعي حتى وجدناه يقدر المتطوعين في جيش الإمام بمائة ألف سيف . من هنا ضاق صدره وأزعجه انتشار صيت الإمام لأن الناس غدت تتناقل مآثر الإمام وعلمه وأخلاقه.
و مع ذلك كان للوشاة (الجواسيس) دور سلبي بارز في تحريض الطاغوت العباسي على سجن الإمام (عليه السلام)، وكان من بينهم ابن أخ الإمام (عليه السلام) محمد بن إسماعيل، ومع ذلك كان للإمام موقف سامي مع ابن أخيه.
فعن علي بن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: «جاءني محمد بن إسماعيل بن جعفر يسألني أن أسأل أبا الحسن موسى (عليه السلام) أن يأذن له في الخروج إلى العراق وأن يرضى عنه، ويوصيه بوصية.
قال: فتنحيت حتى دخل المتوضأ وخرج وهو وقت يتهيأ لي أن أخلو به وأكلّمه.
قال: فلما خرج قلت له: إنّ ابن أخيك محمد بن اسماعيل سألك أن تأذن له بالخروج الى العراق، وأن توصيه، فأذن له (عليه السلام).
فلمّا رجع الى مجلسه قام محمد بن اسماعيل وقال: يا عمّ أحب أن توصيني.
فقال (عليه السلام): أوصيك أن تتقي الله في دمي
فقال: لعن الله من يسعى في دمك ثم قال: يا عم أوصني فقال (عليه السلام): أوصيك أن تتقي الله في دمي
قال: ثمّ ناوله أبو الحسن صرة فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها محمد، ثم ناوله اُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أعطاه صرة أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده
فقلت له في ذلك، واستكثرته. فقال: هذا ليكون أوكد لحجتي إذا قطعني ووصلته
قال: فخرج الى العراق، فلما ورد حضرة هارون أتى باب هارون بثياب طريقه من قبل أن ينزل، واستأذن على هارون، وقال للحاجب: قل لأمير المؤمنين انّ محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد بالباب
فقال الحاجب: انزل أولا وغيّر ثياب طريقك وعُد لادخلك عليه بغير إذن، فقد نام أمير المؤمنين في هذا الوقت. فقال: أعلم أمير المؤمنين أني حضرت ولم تأذن لي.
فدخل الحاجب وأعلم هارون قول محمد بن اسماعيل، فأمر بدخوله، فدخل وقال: يا أمير المؤمنين خليفتان في الأرض: موسى بن جعفر بالمدينة يُجبى له الخراج، وأنت بالعراق يُجبى لك الخراج؟! فقال: والله ؟! فقال: والله!
قال: فأمر له بمائة ألف درهم فلما قبضها وحُمل الى منزله، أخذته الذبحة في جوف ليلته فمات، وحوّل من الغد المال الذي حُمل ال
بالطبع لقد كان هارون اللارشيد يعرف هذا الوضع الاّ ان العباسيين كسائر الحكام الديكتاتوريين حتى يومنا هذا تستخفهم الاثارات، فكم من عالم وفقيه يقبع اليوم في السجن بفعل تحريض هؤلاء الوشاة الجهلة الذين باعوا الآخرة بحفنة من الدنيا، كما أن الإمام (عليه السلام) يعلم بأنه لن يسلم من هؤلاء الظلمة ومع ذلك كان يقوم بدوره الرسالي، لهذا ذهب الطاغوت العباسي بنفسه الى المدينة ليباشر إعتقال الامام، لانه كان يعرف ان الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) يمتلك سلطة روحية على جميع المسلمين، ويعرف انه اذا بعث بأحد قواده ليأتي بالامام فان قائده قد يخونه ولا يطيع أوامره .
إمام القلوب في طوامير السجون:
ماكان هارون ليعتقل الإمام دون أي مقدمات، هو يعلم جيداً أن الإمام يمتلك من الأتباع الكثيرين الذين هم مستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيله، لهذا هو أعد العدة وأسبق إعتقال الإمام بإستعراضات أمنية وعسكرية وإرهاب كبير، وحتى يومنا هذا الطواغيت يستخدمون نفس الأساليب قبال إعتقال معارضيهم، فكيف وأن هذا المعتقل يعتقد به أتباعه أنه الإمام المعصوم المنصب من عند الله سبحانه، سأل الرشيـــد موسى بن جعفر : انت الذي تبايعك الناس سراً ؟
قال : " انا امام القلوب وانت امام الجسوم ". ولم يجد هارون بدا من اعتقال الامام الكاظم فأعتقله وطلب تجهيز محملين، محمل يذهب على طريق الكوفة، ومحمل يذهب على طريق البصرة لكي يعمي على كل من يريد تخليص الامام، وكان قد جهز المحملين ليلا وراء الستر ضماناً لعدم هياج الناس وثورتهم.
وهذا يدل على ان الوضع الذي كان يعيشه المسلمون آنئذ تميّز بان الامام (عليه السلام) كان يبعث الروح الاسلامية في الامة، وفي ابنائها المحرومين، وكان الخلفاء يريدون تطميع الناس وارشائهم وشراء ضمائرهم، وتكوين مجموعة من المتزلفين والمرتزقة حولهم ليحاربوا الائمة (عليهم السلام) اصحاب الحق الشرعي.
ان بعث الوعي يعني القضاء على اهم عامل يستند اليه الحكام الظلمة وهو تجهيل الناس واعماء الحقائق عنهم . تارة بالارهاب واخرى بالأغراء. وهؤلاء الظلمة يعلمون جيداً أن هؤلاء الرساليين لا يطمعون في الحكم، ولا غاية لهم فيها، إنما يسعون لدولة الإنصاف والعدالة، كانت تحركاتهم هي استجابة لصرخة المظلوميين والمحروميين والثكلى.
راهنت الدولة العباسية على قبضتها الأمنية في إسكات المعارضيين، ولم تبادر نهائياً في مكافحة الأسباب التي تدفع الناس تجاه الثورة، عبر الإصلاح والعدل وحماية حقوق الناس، لهذا كانت ما أن تهدأ ثورة حتى تقوم أخرى، حتى في فترة سجن الإمام (عليه السلام). وكان (عليه السلام) يرى في السجن رغم مافيه من آلام وأبشع أنواع التعذيب وقتاً للعبادة حتى قال (عليه السلام) «اللهم انك تعلم اني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد».
لقد حاول الطاغوت العباسي أن يذل الإمام ولكن الله أذله، وقبره وحرمه الذي يتوافد له الملايين في شهادته خير دليل على ذلك، وأما دولة بني العباس فما بقيت لهم، وهاهو التاريخ يلعنهم كما لعن من قبلهم من الطغاة والجبابرة ويلعن من سار على دربهم من حكام هذا الزمان.
و هاهو يوم استشهاده يعد يوماً عالمياً للسجناء، للتنديد بجرائم الطغاة الظلمة في محاولتهم لتغييب الوعي داخل السجن، ولكن هم يخطئون البوصلة كالحاكم العباسي، فغضب النس يتوارث، مادام الظلم متوارث، وإن استطاع الطاغوت أن يرهب الناس بالقتل والسجن والقبضة الأمنية اليوم، فإن هذا الخوف سيكسر يوماً ما، والناس تتجاوزه بشكل تدريجي، وأن من لم يقبل في دفع ثمن التغيير اليوم، سيدفع غداً ثمن عدم التغيير، ولهم في طواغيت الحاضر الهالكة أمثلة واضحة، إذا كان لهم عقول يستخلصون بها عبر السابقين
2/5/13604
https://telegram.me/buratha