عند استقرائنا الشعر العربي عبر التاريخ نجد انه لم يكن مجرد ألفاظ مسبوكة داخل صفوف النظم او كلمات متراصفة داخل
القوالب الخليلية والتي تسمى البحور الشعرية فقد احتوى اضافة الى صوره الجمالية وما اشتملت عليه من علوم اللغة كالبيان والبديع وغيرهما وماحفلت به تلك الصور من معان سامية كالكرم والوفاء والاخلاق والشجاعة وغيرها على معلومات تاريخية قيمة فالقصيدة العربية تعتبر من المصادر المهمة للتاريخ ويستدل بها المؤرخون على حوادثه وهناك الكثير من القصائد في الشعر العربي ارخت حوادث مهمة من تاريخه ودونت ما صاحب تلك الحوادث من حيثيات حتى ولو كانت جزئية.
وقد اولى العرب - حتى بعد ان تشرّفوا بالإسلام - اهمية كبرى للشعر واصبح الشاعر بدلا من المفاخرة بنفسه وبقومه يذب عن الاسلام ويدافع عنه بلسانه فكانت قصائده نبالا في صدور المشركين ويذكر لنا تاريخ صدر الاسلام اسماء لامعة جاهدت في سبيل الله ونصرت رسوله (صلى الله عليه وآله) بلسانها واصبح الشعر وسيلة مهمة لنشر مبادئ الدين الحنيف وحفل بالكثير من علوم القران الكريم والسنة الشريفة وعلوم اللغة والفلسفة والحكمة والفكر والوعظ والاخلاق.
الشعر في القران الكريم والسنة الشريفة
(الشعر في القران الكريم والسنة الشريفة)
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستنشد الشعر ويجيز عليه ويكرم الشاعر المادح له ولاهل بيته (ع) وقد روي عنه الحديث الشريف (ان من الشعر لحكمة وان من البيان لسحرا) وتذكر لنا كتب التاريخ والسير الكثير من الكلمات الشريفة بحق الشعراء وكان (صلى الله عليه وآله) يحب شعر عمه ابي طالب وكثيرا ما استنشد شعره من الصحابة فيقول (لله درُّ ابي طالب من ينشدنا شعره) وعندما اراد العباس بن عبد المطلب عمه (صلى الله عليه وآله) ان يمدحه واستاذن منه في ذلك قال (صلى الله عليه وآله): قل (لايفضض الله فاك) وقال لعمرو بن سالم لما مدحه عمرو (نصرت يا عمرو بن سالم) وقال (صلى الله عليه وآله) لحسان بن ثابت عندما قال حسان شعرا يوم غدير خم (لاتزال ياحسان مؤيدا بروح القدس مانصرتنا بلسانك) وكان (صلى الله عليه وآله) يعتبر ان الشعر الذي يقال في نصرة الاسلام ورسوله هو جهاد في سبيل الله كما قال لكعب بن مالك (ان المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه) وهؤلاء الشعراء الذين جاهدوا في سبيل الله ونصروا الاسلام ورسوله بلسانهم وتابعوا على ذلك الحق المتمثل باهل البيت (ع) هم المعنيون بقوله تعالى (الا الذين امنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ماظلموا) وهم المستثنون في صريح القران الكريم من قوله تعالى (والشعراء يتبعهم الغاوون) ففي تفسير علي بن ابراهيم انه قال نزلت في الذين غيروا دين الله بارائهم وخالفوا امر الله ويؤكد ذلك قوله تعالى (الم تر انهم في كل واد يهيمون) يعني يناظرون بالاباطيل ويجادلون بالحجج وفي كل مذهب يذهبون اذا فالآية الكريمة لم تذم الشعر والشعراء بل ذمت من تابع الباطل منهم ومدحت الذين تابعوا الحق ونصروه.
اهتمام الائمة بالشعر والشعراء
(اهتمام الائمة بالشعر والشعراء)
ومثلما كان رسول الله يولي اهتماما كبيرا للشعر والشعراء الذين شحذوا قصائدهم اسنة للدفاع عن الاسلام فقد اقتفى اثره في ذلك الائمة الهداة من اهل بيته (ع) وكانوا يوجهون الشعراء الى هذه الناحية ويغدقون عليهم الاموال ويحثونهم على الدعوة لهم كقول الامام الصادق (ع) (من قال فينا بيتا من الشعر بنى الله له بيتا في الجنة) وقوله (ع) (ماقال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيد بروح القدس) وهناك الكثير من الكلمات الشريفة للائمة بحق الشعراء الذين دعوا الى الحق وبثوا فضائل ال محمد ونشروا مظلوميتهم وكان الشعراء يقصدون الائمة من البلاد القاصية بقصائدهم فيلقون من الائمة كل حفاوة وتبجيل ودعاء وصلات وارشاد وكانت الغاية من ذلك هو اسماع المسلمين ماثر اهل البيت (ع) ومزاياهم باسلوب فني بديع ياخذ بمجامع القلوب ويمازج الارواح ليكون الناس على علم بما لاهل البيت من الحق فيقولوا بامامتهم ويتحلوا باخلاقهم وياخذوا بتعاليمهم ويتبرؤا ممن ظلمهم -وعلى هذا الاساس اسست الماتم والمواكب الحسينية - وكان الائمة يولون اهتماما خاصا بواقعة الطف وعندما يسمعون شعرائهم يرثون الحسين (ع) كانوا يفتحون الابواب ويرخون سترا فيعلو البكاء والنحيب.
ثورة الحسين (ع) معين الشعراء
(ثورة الحسين (ع) معين الشعراء)
لم يقل او يكتب شعر في شخص او قضية اوحادثة على مدى التاريخ البشري كما قيل وكتب في الحسين (ع) فرغم مضي اربعة عشر قرنا على واقعة الطف الا ان هذه الواقعة الخالدة لازالت وستبقى متجددة على مر العصور تستمد منها الاجيال المعاني السامية التي جسدها سيد الشهداءالامام الحسين (ع) على ثرى الطف وقد استحضر هذه الواقعة عدد كبير من الشعراء في مختلف العصور وملات الاف الكتب والدواوين منذ وقوعها حتى اليوم ورغم ظروف الاضطهاد والقمع التي مارستها السلطات المتعاقبة ضد كل من يقول شعرا في الحسين الا ان كل ذلك لم يمنعهم من الجهر بما ترسخ في قلوبهم من حب الحسين (ع).
أولى المراثي
(أولى المراثي)
قيل ان اول من قال شعراً في رثاء الحسين (ع) هو عبيد الله بن الحر الجعفي الذي ندم على تركه نصرة الحسين فوقف على قبره والقى هذه الابيات المفعمة بالأسى والحسرة:
فيالك حسرة مادمت حيا* تردد بين صدري والتراقي
حسين حين يطلب بذل نصري* على اهل الضلالة والشقاق
فلو فلق التلهف قلب حي* لَهَـمَّ اليوم قلبي بانفلاق
فلو اني اواسيه بنفسي* لنلت كرامة يوم التلاق
لقد فاز الاولى نصروا حسينا* وخاب الاخرون اولوا النفاق
وقيل ان اول من رثى الحسين هو سليمان بن قتة العدوي عندما مر بكربلاء ونظر الى مصارع الشهداء اتكأ على فرس له وانشأ يقول:
مررت على ابيات ال محمد* فلم ار امثالها يوم حلت
فلا يبعد الله الديار واهلها* وان اصبحت منهم برغم تخلت
الم تر ان الشمس اضحت مريضة* لفقد حسين والبلاد اقشعرت
وان قتيل الطف من ال هاشم* اذل رقاب المسلمين فذلت
وقيل ايضا ان اول من رثى الحسين (ع) هو وهب بن زمعة الجعفي عندما وقف على قبر الحسين وقال:
تبيت نساء بني امية نوما* وبالطف قتلى لاينام حميمها
وماضيع الاسلام الا قبيلة* بامر فزكاها ودام نعيمها
وعادت قناة الدين في كف ظالم* اذا مال منها جانب لايقيمها
فاقسم لاتنفك نفسي حزينة* وعيني سفحا لايجف سجومها
حياتي او تلقى امية وقعة* ينال بها حتى الممات قرومها
اما القول الرابع في اول من رثى الحسين (ع) فقيل هو بشر بن حذلم عندما رجع الامام علي بن الحسين (زين العابدين) (ع) من الشام متوجها الى المدينة فصادف في الطريق بشرا فقال له يابشر انطلق وانع الحسين فعصب بشر راسه بعصابة سوداء وعصب فرسه برباط اسود وانطلق الى المدينة فلما وصلها قال:
يااهل يثرب لامقام لكم بها* قتل الحسين فادمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضرج* والراس منه على القناة يدار
يااهل يثرب شيخكم وامامكم* هل فيكمٌ احد عليه يغار
هذه اربعة اقوال في اول شعر قيل في الحسين ومع الاعتماد على أي قول منها تبقى هذه الاشعار التي قيلت في رثاء الحسين (ع).
مواكب الشعراء
(مواكب الشعراء)
ثم توالت مواكب الشعراء بعد ذلك ولايمكن تعداد الشعراء العرب وغيرهم الذين كتبوا في الحسين (ع) غير اننا نذكر بعضا منهم في العصرين الاموي والعباسي من الذين سخروا شعرهم لقضية اهل البيت (ع) وخاصة القضية الحسينية فهذا السيد اسماعيل بن محمد الحميري الملقب (بالسيد) لازال يمدح اهل البيت ويستذكر واقعة الطف حتى لقبه الامام الصادق ب (سيد الشعراء) فعرف به وهذا الكميت بن زيد الاسدي كتب قصائده الهاشميات البلغة خمسمائة وثمانية وسبعين بيتا وتعتبر من عيون الشعر العربي وكلها في اهل البيت (ع) فدعا له الامام الصادق (ع) بقوله (اللهم اغفر للكميت ماقدم واخر وما أسرَّ وأعلن واعطه حتى يرضى) وهذا سفيان بن مصعب العبدي الكوفي شاعر اهل البيت الذي يقول الامام الصادق فيه (علّموا اولادكم شعر العبدي فانه على دين الله) وهذا دعبل الخزاعي وقصيدته التائية المشهورة والتي قصد بها الامام الرضا (ع) وهناك اسماء كثيرة لايمكن حصرها من اعلام الشعر العربي ابو تمام - ابو فراس الحمداني -الصاحب بن عباد -الشريفان الرضي والمرتضى -ابو العلاء المعري - مهيار الديلمي وغيرهم من نجوم الشعر في العصرين الاموي والعباسي.
تتابع المسيرة
(تتابع المسيرة)
وتتابعت مسيرة شعراء الحسين (ع) فبرزت بعد ذلك اسماء لامعة في تاريخ الادب العربي واكبت هذه المسيرة صفي الدين الحلي - ابن العرندس -ابن داغر - رجب البرسي - وغيرهم وفي العصور الاخيرة ظهرت اسماء اخرى عطرت اشعارها بنفائح ذكر الحسين حيدر الحلي -عبد الحسين الحويزي - جعفر الحلي وقد جمع الاستاذ علي الخاقاني اسماء لشعراء كثيرين كتبوا في الحسين من مختلف العصور في مؤلفاته القيمة شعراء الغري وشعراء الحلة وشعراء بغداد كما كتب شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري قصيدتين في الحسين وتغلغلت قضية الحسين الى نفوس الشعراء المسيحيين ومثلما هز صوت الحسين اعماق وهب النصراني فرفع سيفه بوجه اعداء الحسين وقاتل حتى استشهد فقد هزت اصداء ذلك الصوت اعماق بولس سلامة فاقتبس من ذلك الصوت العمق الانساني وراح ينهل منه في شعره.
الملحمة الحسينية كتاب مفتوح للشعراء
(الملحمة الحسينية كتاب مفتوح للشعراء)
لم تخضع قضية الحسين لمرحلة معينة من التاريخ او لبقعة محددة من الارض بل انها ترسخت في القلوب والاذهان على مدى العصور والاجيال وكلما تقدم الزمن تنفتح من تلك الواقعة افاق ورؤى متجددة رحبة ينتقل فيها الشعراء من الواقعة كسرد تاريخي الى افاقها المعنوية والانسانية الكبيرة ويتغلغلوا في عمقها وتفاصيلها التي تنبإ بالروح الكبيرة التي يحملها الإمام الحسين فهي الملحمة المتجددة ابدا وهي الكتاب المفتوح دائما للشعراء
18/5/1225
https://telegram.me/buratha