(ليلة العيد) تقترب منا مع كل نبضة قلب ونحن نلوح بالأيدي مودعين هذا الشهر الذي آذن بالرحيل، ها هو يحزم حقائبه بخطوات متعجلة تؤلم العاشقين، فلحظات الوداع تحرق القلوب : " لا تذهب عنا يا شهر الصيام"، لكنه أشاح بصره وأدار وجهه الكريم وقمره المضيء أوشك على الأفول والغياب، هذا هلال الانقضاء يستعد بزوغه و(الشقي من حُرم غفران الله)، فهل من مغتنم قبل الوداع؟!
"لا تذهب يا شهر الغفران" كلماتٌ وتأوهات لا تُسمع فـ (قطار الرحيل) تقترب صفارته ودقائق الخير فائقة السرعة وفي أواخره تتجافى جنوب المخلصين عن مضاجعهم ويطوي الرسول (صلى الله عليه وآله) فراشه ليطيل سجوده ويتعلق بواحة القدس، وملاحقة آيات القرآن واقتفاء آثار هديه تقودنا لـ (لفرار) : (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) فـ (الانقطاع) وسيلة المفرطين ومن يدعي لنفسه عدم التفريط والتقصير؟! وإن كان (كَرَمَكَ يَجِلُّ عَنْ مُجازاةِ المُذْنِبِينَ وَحِلْمَكَ يَكْبُرُ عَنْ مُكافأَةِ المُقَصِّرِينَ) !!
الاختلاء مع الله والفرار إليه من موبقات الذنوب بلسمٌ لـ (لجراحات) ودواء لما يعتلج في القلوب وكما نقرأ في الدعاء المبارك : (إِلى مَنْ يَذْهَبُ العَبْدُ إِلاّ إِلى مَوْلاهُ وَإِلى مَنْ يَلْتَجِيُ المَخْلُوقُ إِلاّ إِلى خالِقِهِ)؟!
فالاعتكاف دعوة روحية على موائد الجليل ومن جانبه التوفيق في هذه الضيافة فعليه أن يربط نفسه في سارية بيت من بيوت الله كما فعل (أبي لبابة) ويذرف الدموع قبل فوات الآوان، فمن لم يُغفر له في هذه الأيام خسر الفوز بالطهارة والمغفرة ولا عيد له وإن لبس أفخر الثياب فـ (العيد لمن أمن الوعيد) لا لمن فرط في يومه وأمسه.
يتفرغ المعتكف لعبادة الله فيما تبقى له من أيام تعد على الأصابع، فالقرآن المهجور لم نرتوي منه بل خطفتنا الدنيا بزبرجها عنه، والدعاء المأثور ضاع منا بجولات تسوقيه ومشاهدات أضاعت علينا شهراً هو عند الله أعظم الشهور، فالندامة التي لا تساوقها حركة لا قيمة لها وخير حركة يقوم بها النادم لزوم الاعتكاف ليروض نفسه ويشذبها قبل ضياع التذكرة، فالمقاعد لم تكن محدودة ولكن الغفلة ضيعتنا ولعل "دمعة خشية" تطفأ بحور جهنم (وعين بكت من خشية الله) أو "خشعة صلاة" تفي بالغرض : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ).
إن مريم الصديقة كانت تشق طريق الاختلاء بالرب الكريم وتأنس معتكفة بالأنيس الذي لا يُمل فأعطاها من البركات ما تعجب منه زكريا النبي (عليه السلام) : (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا)؟!، لقد كرمها ومن تكريمه قوله فيها : (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)، فكيف لا يُكرم من يقترب من الله؟! وهو القائل في حديثه القدسي : (إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)، فلماذا لا نفر مهرولين إليه وقلوبنا تطفح بالهيام؟!
إن لنا في فرار فتية أصحاب الكهف وقفة وشتان بين (كهفٍ ومسجد)، أيكون (قطمير) ثامنهم أقوى حنكة من المسلم الحصيف؟!، لا يعلم المؤمن ما للاعتكاف من أجر، يكفي فيه مدحاً أنه سيرٌ واقتداءٌ بالنبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما في ذلك دعوة أن نتجافى عن دار الغرور ونعقد العزم على التعلق بجدران المساجد فهي فرصة سانحة لا تفوت المؤمن الفطن، لنوقع توقيعات التوبة ولنبصم بصمات الندم والاعتراف قبل زوال الكنز وقد نظفر ببهجة غامرة إن ربحنا ليلة مخبوءة هي : (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر).
7/5/817
https://telegram.me/buratha