علي محمد البهادلي
العبادة من المفردات والأساليب الناجعة المهمة التي اتكأت عليها الكثير من الديانات من أقدم العصور إلى وقت الرسالة الخاتمة في تقويم سلوك الإنسان وتحسينه ، وقد تنوعت العبادات ، فهناك الصلاة والصيام والحج والزكاة .... لكن كل هذه العبادات مضامينها تقود إلى معنى واحد وهو العبودية المطلقة لله (سبحانه وتعالى) مما يستتبع أن يكون الإنسان حراً من جميع القيود والأغلال التي تسيطر عليه ، سواء القيود والأغلال البشرية كأن يستعبده الطواغيت والمستكبرون ، أو قيود وأغلال داخلية تأخذ بمجامع قلبه وتسيِّر سلوكه على وفق ما تشتهي كحب المال والجاه والشهرة والميل إلى الجنس الآخر والحقد والحسد ، فكل هذه الأشياء أغلال تأسر الإنسان وتكبله إذا لم يجد ما يكبح جماحها ، لذا كانت العبادة لله وإظهار الخشوع والانقياد الكامل له هي الوسيلة المثلى لتحرير للإنسان مما سبق ذكره آنفاً . وإذا كانت أغلب العبادات كالصلاة والزكاة والحج هي عبادة إيجابية أي تنطوي على أفعال معينة يقوم بها العابد ، فهي إذاً عبادات إيجابية ،أما الصوم فهو على العكس من ذلك فهو عبادة تتضمن الانتهاء عن أفعال معينة كالأكل والشرب ... أي هو عبادة سلبية وأعني بذلك هو عبادة مطلوب فيها " سلب الفعل " ففي الصيام الشرعي هو الإمساك عن تناول المفطرات مع نية القربة إلى الله (سبحانه) ، والحقيقة ان هذا التعريف فقهي ، أما إذا أردنا التوسع في مفهوم الصوم والخروج عن المعنى الفقهي ، فنقول : إنه الإمساك والتوقف عن تناول ما تشتهيه النفس ، فهذا الشهر المبارك يريد الله من الفرد أن يدخل دورة للسيطرة على جميع جوارحه فيمسك عن الطعام والشراب وبقية المفطرات ، وفي الوقت نفسه يريد منه أن تصوم جوانحه أي أن يكون تفكيره ومشاعره وأحاسيسه وملكاته النفسية كلها داخلة في إطار الصوم ، فهو ـ أي الفرد ـ يتوقف أو يمسك عن الحقد والكره والحسد والتعالي على الآخرين وحب الذات والبخل والطمع والجشع ، لذا قال الله سبحانه وتعالى في آية الصيام : (( يا أيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) فالغاية الأساسية من الصيام ليس هو الجوع والعطش ،وإنما الإحساس بالجوع والعطش يقود الإنسان إلى التفكير في عطش الآخرين وجوعهم وهو ما ينهاه عن الأسباب التي تؤدي إلى جمع المال لهذه الأغراض بغض النظر عن مصدر جمعها ؛ لأنه سيصل إلى منطقة التقوى وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة بـ ( لعلكم تتقون ) فالتقوى في اللغة هي الحذر والحفظ ، فحذر الإنسان من الأمور التي تسبب له الغفلة وتدخله في عالم المادة وعدم استشعار آلام الآخرين ، سيحقق له الحفظ والأمان من الوقوع في محارم الله ونواهيه ، وسيكون زاهداً في هذه الدنيا . ولا أعنى أن يلجأ الإنسان إلى التقشف والإعراض عن زينة الحياة الدنيا ، وإنما المقصود من الزهد كما قال الإمام علي (ع) : (( الزهد ليس أن لا تملك شيئاً ، إنما الزهد أن لا يملكك شيء )) . وعوداً على بدء فالصيام هو ليس الإمساك عن الأكل والشرب فقط ، فقد روي عن النبي الأكرم أنه سمع امرأة تسب جارية لها وهي صائمة فدعا رسول الله (ص) بطعام فقال لها : كلي ، فقالت أنا صائمة يا رسول الله ، فقال : كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك ، إن الصوم ليس من الطعام والشراب ، وإنما جعل الله ذلك حجابا عما سواهما من الفواحش من الفعل والقول ، ما أقل الصُّوَم وأكثر الجُّوَع )) وهناك كلام للإمام علي قريب من مضمون هذا الحديث إذ يقول فيه (ع) : (( كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ وكم من قائم ليس له من قيامه إلا العناء ، حبذا نوم الأكياس وإفطارهم )) فالمعيار الذي توزن به الأعمال عند الله ( جل وعلا ) دقيق جدا ، فهناك الكثيرون لم تصم جوارحهم إلا عن الماء، إذاً ليس لهم من أجر إلا أجر العطش ، وكذلك المصلون الذين يقومون الليل كثير منهم لا ينزه نفسه عن قبائح الأعمال كالكذب والحسد والغيبة وأكل المال الحرام وقول الزور ، إذاً ليس لهم من أجر الصلاة إلا عناء القيام ؛ لأن الله عادل وفي الوقت نفسه ليس بظلام للعبيد ، وأما الأجر الجزيل والثواب العظيم فهو من حصة الأكياس الذين يعون معنى العبادة فصيامهم ونومهم وإفطارهم لا يشغلهم قيد أنملة عن المعاني المتوخاة من ذلك ؛ لذا قال (ع) : (( حبذا نوم الأكياس وإفطارهم )) . وهناك خبر يروى عن الإمام الصادق (ع) وهو خبر جامع مانع كما يعبرون يحسن أن ننقله ، وهو قوله : (( إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحدهما ، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب ، وغضوا أبصاركم عما حرم الله ، ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تماروا ولا تحالفوا كذبا ، بل ولا صدقا ولا تسابوا ولا تشاتموا ولا تظلموا ولا تسافهوا ولا تضاجروا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة وألزموا الصمت والسكوت والصبر والصدق ومجانبة أهل الشر ، واجتنبوا قول الزور والكذب والفرى والخصومة وظن السوء والغيبة والنميمة .. )) . إن الإنسان الذي يدعي الانتماء إلى هذه الشريعة التي سنت هذه العبادات والشرائع حري به أن يكون سلوكه في البيت والوظيفة العامة وفي الشارع عاكساً لمضامين هذه العبادات ، وأن لا يقتصر على إظهار الانتماء الظاهري للشريعة الإسلامية من ملابس تقليدية أو زي ديني أو تطويل وإطلاق اللحى ، فما قيمة هذه المظاهر عند الله ؟ إذا كان المتقمص لها يسرق أموال الفقراء ويتلكأ في تقديم الخدمات لهم ويرتكب جريمة الرشوة ويتعمد في عرقلة معاملاته ويغش الناس في تعامله معهم في السوق أو المتجر ، فكما هو واضح إن الله يستهدف أكثر من هدف في تشريعه للعبادة فهي من جانب تحرر الإنسان من الأغلال والطواغيت وتلغي ارتباطاته بسوى المولى (جل وعلا) وهي من الجانب الآخر تعطي بعداً اجتماعياً لا ينفك بالنتيجة عن الهدف الأول بل هو نتيجة له وثمرة من ثمراته ، وحتى الكفارة التي فرضت على من يتعمد الإفطار في يوم من أيام هذا الشهر قد جعلت بين عتق رقبة وصوم شهرين متتابعين أو أطعام ستين مسكينا ربما لحظ فيها المنحى الاجتماعي فالإنسان الذي يفطر متعمداً يفرض الله عليه كفارة إعتاق رقبة مؤمنة أو اطعام ستين مسكيناً وهو ما يشكل تركيزاً قوياً على البعد الاجتماعي إضافة الى البعد الروحي للصوم ، وأما من يفطر غير متعمد لعلة ما كالشيخ والشيخة وذوو العطاش والحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن إذا أضر بها الصوم أو بالولد فعلى كل أولئك تجب عليهم الفدية وهي مد من الطعام والمد من الطعام مقداره ثلاثة أرباع الكيلو ، نستنتج أن الشريعة المقدسة كانت لها وراء تشريعها الكثير من العبادات هدف نبيل وسامٍ وهو تقويم سلوك الفرد وتعديله لينسجم والهدف الأعلى المخلوق من أجله ، وهو ما يؤدي تلقائياً إلى خلق مجتمع عادل تسوده قيم الخير والعدالة والصلاح ، وتنهزم فيه الإرادة الشريرة في النهاية .
https://telegram.me/buratha