لا تتفاجأ انت هنا في بورما (جمهورية اتحاد ميانمار) في أقصى الجنوب الشرقي لشبة القارة الهندية , وهناك على الساحل الجنوبي الممتد لبورما للمنطقة المحاذية للهند شرقا والصين شمالا تأخذك قدماك والخريطة الساحلية الممتدة الى الولاية المسلمة أراكان القابعة في المحيط الجغرافي الهندي الصامت , هنا .. وبالتحديد ترتكب ابشع المجازر الوحشية والمذابح وعمليات الإبادة الجماعية ضد المسلمين من قبل البوذيين المتطرفين, هنا.. يقتل المسلمين بدم بارد وترتكب بحقهم ابشع وافضع الجرائم , وتمارس ضدهم أقسى الانتهاكات الإنسانية على مر التأريخ من تطهير عرقي وتصفية جسدية وجريمة منظمة.
لن تخونك عيناك وهي ترى السماء الصافية الزرقاء والأجواء الساحلية المنعشة والأمواج المتلاطمة وهي تعانق الشواطئ الرملية الذهبية فرائحة الدماء تفوح في الأرجاء , وصرخات الاطفال والنساء لا تكف عن النداء , والشوارع الخالية تسرح وتمرح فيها ذئاب البوذية الفاشية المتطرفة حاملة مختلف الأسلحة والعتاد بحماية قوات الأمن والشرطة , نعم ..انت في أراكان , مدينة الأشباح والليل .. المدينة المسلمة الغارقة في الدمآء والأشلاء المتناثرة على الطرقات, أنت الآن تحيا في عمق الجراح المنسية من مآسي الإنسان والتأريخ.
العداء التأريخي الممتد والمتوارث ضد الإسلام في تلك المناطق يأخذنا الى العام 1942 حيث تمت اكبر مجزرة تأريخية في المنطقة ضد آلاف المسلمين راح ضحيتها واستشهد فيها ما يقارب أكثر من 100 ألف مسلم , وامعانا لطمس الهوية الإسلامية والحضارية من بورما تم تهجير اكثر مليون ونصف مسلم بين عامي 1962و1991 الى بنجلادش, فهنا اجتمعت السياسة والجغرافيا و امتزجتا معا في تحالف غريب وناصبتا العدآء للإسلام , وتوحدتا لتصنعا معا سيف الجيوسياسية الحاد لتذبح الهوية الإسلامية بلا رحمة ولا شفقة ومع سبق الإصرار والترصد.
دخل الإسلام الى تلك المناطق مع مطلع وبدايات القرن التاسع الميلادي مع التجارة الإسلامية محملا بعبق وأريج البخور والعطور والسلام , التي ارفدت تلك البلدان بمختلف المواد والسلع وانتشر الإسلام فيها بكثرة , وتعتبر هناك اقليات مسلمة مهاجرة ذات اصول عربية قادمة من الوطن العربي , ويمثل المسلمين في بورما 20% من عدد السكان الاصليين البالغ عددهم 60 مليون نسمة , رغم ان الحكومة البورمية تقلل النسبة حسب الإحصائيات الأخيرة الى 3% لتقلل من اهمية الوجود الاسلامي , ينما يقول تقرير للجنة الحرية الدينية الأمريكية التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية لسنة 2006 أن الإحصائية الرسمية تقلل من السكان غير البوذيون الذين قد تصل نسبتهم إلى 30%.
ولم يتوقف الأمر عند التصفية الجسدية و التطهير العرقي بل وصل الأمر الى حد الإقصاء والتهميش السياسي , فعندما جرت الإنتخابات , تم منح 43 مقعدا للبوذيين و3 مقاعد فقط للمسلمين , وانتهجت الحكومات والأنظمة المتعاقبة في بورما سياسة العقاب الجماعي و غض الطرف والتجاهل عما يحصل للمسلمين من اعتداءات غاشمة متكررة من جانب البوذيين المتطرفين , بل وخلق الأعذار الواهية وتبرئة المتهمين في اعمال الإبادة والمجازر التي تتم بصورة بشعة ووحشية وتستخدم فيها السكاكين والاسلحة البيضاء والعصي والأسلحة النارية.
ووصلت مؤخرا الى اشتراك وحدات من القوات البورمية الخاصة في اضافة الغطاء الرسمي والمساهمة الجنائية المتعمدة في الجرائم و عمليات الإبادة الجماعية التي تطال الآف المسلمين , الذين يتم جمعهم وحرقهم او اطلاق النار عليهم وحرق مساكنهم ومحالهم التجارية , بل وفي طريقة وحشية لا انسانية يتم جمع الاطفال الرضع ووضعهم على صفائح معدنية ويتم حرقهم كشواء للعداء والحقد الدفين الذي تنتهجة الحكومة البورمية مع الفئة المتطرفه من البوذيين, فانت هنا لا تشاهد فيلم من افلام الرعب فيلم الرعب المحرقة Cannibal Holocaust لآكلى لحوم البشر, , بقايا جثث انسانية متفحمة حقيقية خلفتها عمليات الحقد الأسود , ولم يبق منها الا رمادا متطايرا في الأجواء يحكي ظلم الإنسان لأخية الإنسان , في عالم حر يحيا على ضفاف القرن الحادي والعشرين , بينما وهناك في ذلك الجانب المظلم من الجغرافيا والتأريخ المنسي تمتهن الكرامة الإنسانية وتباد الحضارة التقدمية تحت اقدام الجبروت والطغيان, وعلى مرأى ومسمع من العالم تمحى الهوية الإنسانية وتغرق في وحل الإنحطاط الفكري والثقافي لشعوب تسودها قوانين الغاب وتحكمها الأهوآء والمصالح. هنا العالم اشبه ما يكون ب (نيرون العصر الحديث) حينما ترتكب محرقة وهولوكست جماعي في بورما, ويعيد الى الأذهان احراق روما بينما ظل الإمبراطور الشاب نيرون فى وسط صراخ الضحايا جالساً في برج مرتفع يتسلى بمنظر الحريق الذى خلب لبه وبيده آلة الطرب يغنى أشعار هوميروس التى يصف فيها حريق طروادة.
وظهر مؤخرا رئيس بورما تين سين مبررا و بطريقة فجّة و مستفزة مخاطباً العالم الحر ويطالب بإخراج المسلمين من الأراضي البورمية ,زاعما -حسب وصفه- بانهم جماعات دخيلة ومهاجرة غير مرغوب فيها , و عبارة عن مجموعات مسلحة و مثيري للشغب والتقطعات والاعمال التخريبية , ما يذكرنا ب (وعد بلفور) المشؤوم حين تم تهجير اليهود الى فلسطين وانشاء وطن قومي لهم بدعوى (الأرض المقدسة) او (أرض الميعاد) وبذا تخلصت القارة العجوز حينها من عبء تكاثر واضطهاد اليهود على أراضيها.
بدأت إنطلاقة شرارة العنف والجرائم والأحداث في بورما حينما اعلنت الحكومة البورمية في يونيو الفائت انها ستعطي بطاقة المواطنة للعرقية للفئات الروهنجية المسلمة , مما اثار غضب الجماعات المتطرفة البوذية , فبادرت الى استباق الإعلان لانهم يدركون ان هذا سيؤثر في حجم انتشار الاسلام , فخططوا لأحداث فوضى وسارعوا الى التقطع لحافلة تضم عشرة من العلماء كانوا عائدين من اداء العمرة , وقاموا بربط ارجلهم وايديهم وانهالوا عليهم ضربا بطريقة وحشية حتى استشهدوا , وبررت السلطات ذلك العمل القمعي للبوذيين بانه انتقام لشرفهم لأن شاب مسلم قام باغتصاب فتاه بوذية وقتلها , وشارك في هذه العملية 450 شخصا , وقامت الحكومة باعتقال اربعة اشخاص مسلمين بحجة الاشتباه بتورطهم في قضية الفتاة , فيما تركت 450 قاتلا بدون عقاب .
و علاوة على ذلك , وفي احدى صلوات الجمعة حاصرت القوات الأمنية المساجد تحسبا لخروج المصلين بمظاهرات منددة بالحادثة , وطوقت الأحياء والمساكن وأثناء الخروج القى البوذيين الحجارة على جموع المصلين و حصلت اشتباكات عنيفة وفرضت السلطات حظر التجوال على المسلمين بينما تركت البوذيين يعيثون في الأرض فسادا , ويهاجمون الأحياء المسلمة بالسيوف والعصي والسكاكين، ويحرقون المنازل ويقتلون من فيها أمام أعين قوات الأمن وأمام صمت العالم.
وان كانت هناك مواقف دولية منددة , الا انها عامة مواقف متذبذبة وصامتة وصادمة -نوعا ما- من قبل الدول الإسلامية , عدا بعض التنديدات من قبل الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين - كماهي العادة- وبعض الدول وبيانات الإستنكار والشجب و الإدانة , الا انها لا ترقى الى مستوى الحدث ولم تغير شيئا على ارض الواقع , فما زالت اعمال الإبادة الوحشية مستمرة حيال الصمت الدولي الذي اعطى غطاءا دولياً للحكومة البورمية وللجماعات المتطرفة في بورما للإستمرار في اعمال الإبادة والقتل والإغتصاب والتطهير العرقي والتصفية الجسدية لكل ماهو مسلم , هناك يجبرون الفتيات على شرب الخمر وأكل لحم الخنزير مالم ستكون العقوبة رادعة بالإغتصاب الوحشي والقتل !!
ربما إنشغال المحيط العربي والمسلم المحبط بالأزمات الداخلية جعلة يتناسى في خضم معمعة الأحداث ما يجري في بورما , وما تتعرض له الأقليات المسلمة من اعمال وحشية وابادة جماعية وانتهاكات صارخه , وربما.. بعد النطاق الجغرافي عن المحيط الإسلامي جعل ما يجري هناك من جرائم إنسانية دارجة في هامش العلاقات والإهتمام الدولي و الإسلامي, ولا يملك المسلم حيال ذلك إلا الصمت والدعاء لمسلمي بورما , وهذا ما يعيد الى الأذهان بصورة حية عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية للمسلمين في صربيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك , وعن مدى صمت العالم المتقدم وتجاهله حيال تلك الجرائم البشعة التي قامت ضد مسلمي تلك الدول وراح ضحيتها مالايقل عن 110,000 قتيل وتم تهجير حوالي 1.8 مليون شخص عن مناطقهم, فهل ينتظر العالم الإسلامي حتى تصل الأرقام في بورما الى تلك الأعداد المهولة حتى يتحرك وينتفض نصرة لمسلمي بورما ؟!
وتناقلت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بعض المقاطع الموثقة عن مدى وحشية تلك الجرائم من حالات انسانية يندى لها الجبين العالمي , وتمثل بصمة عار في جبين الإنسانية المتقدمة والمتحضره , وتبدو تلك الصور عن حالات ذبح و ابادة جماعية – اكوام بشرية بالآلاف - واغتصاب وقتل ولم يسلم منها حتى الأطفال الرضع , الصمت العالمي إزاء ما يحصل في بورما يعتبر انتهاكا صارخا للمواثيق والإتفاقيات الدولية والإنسانية بحماية حقوق الإنسان وحرياتة الأساسية , بمختلف التوجهات الدينية والعرقية , فلم تكن هناك تحركات دولية جادة بخصوص هذا الشأن , ولم تنتفض الكرامة الإسلامية والعربية وتصحو من سباتها العميق لنصرة مسلمي بورما و رفع الظلم عنهم, واذا استمر الصمت الإسلامي العالمي سنجد ان خارطة المسلمين ستمحى تماما من تلك الدول , وربما لن تكون النهاية في بورما وقد تمتد لتشمل جميع الأقليات المسلمة والمسالمة في جميع تلك المناطق والدول .
9/5/720
https://telegram.me/buratha