المنامة / مراسل براثا نيوز
جدران أربعة لا تتسع حتى لأن يتشارك الهواء معك، والكتابة عنها فيض ألم، واللغة المنسلّة من آلام أجسادٍ أثقل من اللغة نفسها. وأن الموجوع يحاول أن يلوذ في أي زاويةٍ منها بشق حياة و هو يحاول أن يقضم ماتبقى منها من رمق، يقضم اللّغة الصارخة على من أنتهكوا العرف والقانون والتاريخ بل والذات الإنسانية..!.
في 22 من مارس، في نقطة أقرب إلى الموت، وهي نقطة التفتيش، توجه رجل ستيني (1) لأخذ سيارته من دوار "اللؤلؤة"، لكن هل كان يعلم إلى أن سيقوده ذاك التوجه؟! و هل كان يعلم عن هول الضرب الذي سيتلّون به جسده ؟! من هذه النقط بالذات ستبدأ الرحلة...
من مركز "النعيم" إلى "القلعة"، لا نور و لا هواء؛ إلاّ صوت الجلاد و هو يخنق الهواء، و الصراخ المتعالي يكافح الموت بالحياة. وطبيب القلعة يرى أنك "حصان" جامح وجاهز لتلقي الوجبات التي ستصبغ جسدك، وكل ندبة فيك ستشهد عن عنفوانك.
فُتح الباب، دفعة قوية ويتدحرج الستيني إلى أسفل السُلم إلى ممرٍ ضيق، إنه القلعة نزل الموت المظلم، لا هواء فيه، إلاّ من رائحة الدم توقض كل الحواس للإستعداد للقادم من الأيام المؤلمة.
يخدرك التعذيب لهمجيته، ولا يوقضك إلاّ صراخ الموجوعين مثلك، معاً تتشاطرون الوجع والجلاد نفسه، لا تسمع بإذنك، لكن قلبك هو من يتألم،كل زفرة تطلقونها هي فائضٌ من الحرية التي كنت تودون رسمها، وهي تصرخ مع كل وجعٍ يتفتت في عظامكم، تصرخ وهي تريد أن تعانق الحلم مثلك، ولكن لا يسمعك أحد..
تنتهي رحلة، وتنتظرك رحلة عذابٍ أخرى، ثلاثة أيام من الاعتقال والتعذيب و نزع الاعترافات التي تهدأ وتُريحك ولا ترتاح، ومقيّد بالأصفاد حتى حينما تتناول الطعام.
فُتح الباب، تقدم أحدهم وسحبه من لحيته، وآخر من شعره، وتكالب ثمانية أشخاص عليه بالضرب والرفس وصولاً لغرفة التحقيق.
المحقق لا يعرف إلاّ أن يسأل : رحت الدوار؟ و من هم شباب 14 فبراير؟
أجاب الستيني: نعم. رحت الدوار. 400 ألف شخص طلعوا مسيرة إذهب و اسألهم!
المحقق: من تعرف غيرهم؟
أجابهُ: أعرف «حسن مشيمع»، «عبدالوهاب حسين»، و«إبراهيم شريف» وووو .. بعدها، سينال وجبة دسمة من اللإنسانية المنحطة، حيث أمر الشرطة بوضع سلسلة الحديد في قدمه، سحبته السلسلة إلى أعلى السقف، صار معلقاً بالمقلوب، رأسه في الأسفل ورجليه في الأعلى، ويداه و راء ظهره مصفديّ الأغلال ومعصوب العينين.. جهز الصعق بدأ يطلق الشرار، صعقوه في صدره وفي قدمه عدة مرات.. انتفض جسمه من شدة الصعق، قفز جسمه في الهواء والسلاسل تتطاير معه.. وهل أكتفوا؟ بل هل شبعوا؟ بالطبع لا..أحدهم سدد ضربة قويه على وجههِ، فيما الآخر حاول خنقه بالحبل..لا أعرف كيف يحتملون المشهد؟ أيَّ قلبٍ يحملون؟!
تراءت لهُ "أمه" .. تشهدّ و كبرّ علًّ السماء تتلطف به..
بعد تحقيق دام ساعات طويلة، ساقوه للخارج مغشياً عليه. رموه في الممر مع العشرات من المعتقلين المكدسين فوق بعضهم البعض. كل من يمر عليهم يركلهم ويبصق عليهم ويشتم، حتى متى ما أرادوا إفاقته يرموه بدلو من الماء.
حاولوا قتله في الأيام الأولى من الاعتقال، و ظل قوياً تحتدى الهمجي فيهم، استمروا يالتنكيل، الصعق؟ ليكن، الماء البارد، فليكن أيضاّ، تعوّد الجسم، لم يعد باستطاعتهم هزمه.
في السجن، الستيني في صراع مع الوقت، صراع مليء بالتحدي، يتحكم المحقق بالجهد الكهربائي، يتحكم في إراته أن لا تنكسر، الجلاد يامر بأن يضربونه بالسوط، مقابل الجدار السياط تأكل من جسده ومن رأسه يركل بالجدار أيضاً، فيقع على الأرض مغشياً.. يأخذ الستيني نفسًا عميقاً، ويكمل ما يصفه بأصعب اللحظات، تغادره روحه مِراراً ولا يغادر الجلاد من الممر الضيق.. أخذوه وهو منهك القوى وأدخلوه إلى غرفة التعذيب مرة أخرى، بطحوه أرضًا، جلس أحدهم على يده اليمنى والآخر على اليسرى فيما يداه مكبلتان بسلسلة حديد طويلة، وثالث على ظهره بينما الرابع عراقي الجنسية، يحاول نزع سرواله الداخلي، وإدخال قطعة خشب خلفه.. وهنا تسآل الستيني:
هل أصرخ ؟ وهل سيشق الصراخ إلى قلوبهم؟ لا.. اللحظة الآن متوقفة على الإرادة، حين تحمل الألم صار سهلاً عليه أن يقاوم أكثر فأكثر..
خرجت روح الستيني لمكانٍ آخر، الروح تتوق للرفقة، السجن الإنفرادي بدأ يتلاشى، ولم تعد الأصفاد تهم، الدم العابق هناك هو الذي لم يغادر..
وهل انتهت القصة، واهنٌُ من يعتقد ذلك،القصة لم تنتهي بعد،و ما لم تأخذه آلات العسكر و تفنن جلاديهم، تستطيع أن تغتال الحرية في الستيني و لو قليلاً..
-------------------
(1) الستيني هو:
«محمد حسن محمد جواد»: شهرته "برويز" وكنيته أبو رمله، لديه ابنتان «رمله» و«سوسن» و4 أبناء «علي» و«حسين» و«حميد» و«هادي». أعتقل 26 مرة منذ الستينات حتى الآن. أفرج عنه في المرة الأخيرة في 25 يناير 2011. . مازال معتقلا منذ 22 مارس 2011 . من مواليد 1948، عمره يبلغ 65 سنة، من سكنة "سترة" – "واديان".
...............
445813
https://telegram.me/buratha