حسن الهاشمي
إزاء الحوادث العظيمة التي سطرها أولئك الأبطال في رمضاء كربلاء وقفت الإنسانية وقفة إجلال وإكبار، وطالما كانت المواقف النبيلة التي سطرها النبلاء هي مفخرة ليس للعالم التكويني فحسب بل لخالق الخلق الذي أعطى للإمام الحسين عليه السلام خصوصيات غير متوفرة لا للأنبياء ولا للأولياء غيره، لما علم منه من اخلاص وذوبان في الحق والقيم والفضائل ولما خبر من تلك الذوات المحلقة حوله من استماتة لبذل الغالي والنفيس في سبيل مرضاة الإمام التي هي بلا شك مرضاة لله تبارك وتعالى، ولعل الشكوك التي تراود البعض بشأن منزلة الشهيد بكربلاء ليس لها مورد في عالم الوجود، حيث أن مشيئة الله تعلقت بانصباب الرحمة الإلهية على السائرين في نهجه والمخلدين لذكره كل حسب معرفته، وكيف لا والإمام الشهيد قد أعطى وبكل اخلاص كل ما يملك لعقيدة السماء فوهبت له السماء ما تملك، والسماء لا يزيدها كثرة العطاء إلا جودا وكرما، وبهذه المقدمة لا نستغرب لماذا كل هذا الفضل لمن مشى إلى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام)؟!لا نستغرب أن يكون للماشي وبكل خطوة يخطوها كمن أعتق رقبة في سبيل الله أو له حجة متقبلة بمناسكها؟!يتجلى في ذلك السر من أن الله يكتب له ألف حسنة ويمحو عنه ألف سيئة ويرفع له ألف درجة ويحصل على الخير الوافر ولا يصيبه الشر أبدا وأنه من أهل الجنة ولا يرى النار بعينه أبدا، ومنذ أن يخرج من بيته حتى يبلغ مأمنه تحفه الملائكة؟! يتضح أن الزائر الماشي ما إن وقعت الشمس عليه حتى أكلت ذنوبه كما تأكل النار الحطب، وما تبقي الشمس عليه من ذنوبه شيئاً، فينصرف وما عليه ذنب، وعلى أي عمل أقدم حتى يرفع له من الدرجات ما لا يناله المتشحِّط بدمه في سبيل الله؟!يتجلى من أن الله يخلق تعالى من عرق زوار قبر الحسين (عليه السلام) من كلّ عرق سبعين ألف ملك يسبّحون الله ويستغفرون له ولزوّار الحسين (عليه السلام) إلى أن تقوم الساعة، كما جاء كل ذلك في الروايات المعتبرة؟! العشرون من شهر صفر من كل عام، هو اليوم الذي يتأكد فيه المشي إلى مرقد الإمام الحسين عليه السلام تأسيساً لفعل الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري رحمة الله عليه الذي قام بزيارة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وهو أول من زاره، وحث الأئمة الأطهار عليهم السلام على الزيارة في هذا اليوم، فقال الإمام العسكري (عليه السلام): علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.وبما أن الدنيا دنيا امتحان واختبار ولا يعرف جوهرة ايمان المرء إلا بانتخاب أحمز وأصعب الأمور زيادة في العطاء وانهمارا للرحمة الإلهية، فإن المشي وتحمل المشقة والعناء في سبيل الزيارة مواساة لرجوع حرم الحسين عليه السلام في مثل ذلك اليوم إلى كربلاء عند رجوعهم من الشام، وإلحاق عليّ بن الحسين عليه السلام الرؤوس بالأجساد، وكذلك تأسيا لجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه في مثل ذلك اليوم الذي وصل من المدينة إلى قبره الشريف وسمّيت بزيارة الأربعين لأن وقتها يوم العشرين من صفر، وذلك لأربعين يوماً من مقتل الإمام الحسين عليه السلام.لم يقتصر المشي لزيارة مرقد الإمام الحسين عليه السلام في زيارة الأربعين بل تعدتها بزيارة العاشر من المحرم والنصف من شعبان ويوم عرفة (9 ذي الحجة)، والروايات الواردة في المشي إلى زيارة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام كثيرة جداً، والإتيان إلى زيارته مشياً على الأقدام مستحبٌُّ مؤكد وقد عقدَ في الروايات المتواترة المروية في كتب المزار والكتب الأربعة باباً مستقلاً في فضل المشي إلى زيارته عليه السلام، ولا يُصغى إلى وسوسة بعض الجهلة الذين يُنكرون فضل المشي إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام فإنهم غافلون عن مدارك الأحكام والعبادات المستحبة ومواضع الاستظهار، وكذلك لا يُعتنى بأقوالهم ولا عقائدهم في اُمور الدين، حيث أن مصدر التشريع في ذلك الكتاب والرسول والعترة الطاهرة من أهل بيته وكل ما خالف ذلك يضرب به عرض الجدار. الظروف العصيبة التي مرّ بها الشعب فرضت طوقاً عصيباً حال دون انتهال الجيل الجديد الذي ولد في ظل تلك الظروف من منهل العقيدة والولاء العذب، وها هي الظروف تتحول إلى حال أحسن من الحال الذي مضى، وعليه فينبغي الاستفادة من مرافد المعرفة الإيمانية الاصيلة لتُبنى أجيال المسيرة الحسينية، وتساهم في البناء العقائدي مساهمة جادة ونافعة وتقدم دورها في خدمة المجتمع العراقي وبقية المجتمعات أو الفئات الشبابية التي تعيش ظروفه.وحينما نشاهد الزوّار الكرام السائرين إلى زيارة الإمام سيد الشهداء عليه السلام مشياً على الأقدام يعترينا الشوق إلى أنهم يسعون إلى الإستفادة من هذه الزيارة المليونية استفادة استثنائية، وحري بكل واحد منهم خلال الأيام التي يقضيها في هذه الزيارة أن يهتمّ بمحاسبة نفسه يومياً ولو لدقائق معدودة كما أكّد الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم ذلك، هل أنه سائر على نهج الأئمة وعلى رأسهم من يحيي ذكراه ويتحمل كل تلك المشاق في سبيل تخليد ثورته المباركة؟! هل أنه التزم بالصلاة في أوقاتها، وهل أنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وهل أنه طلب الإصلاح في أمة محمد صلى الله عليه وآله؟! إن كان قد حصل على تلك المناقبيات وأثرت في سلوكه وتعامله مع المجتمع فهو يستحق كل ثواب وينتظره المزيد في الآخرة، وإن كان هو في واد وأهداف الثورة الحسينية في واد آخر نأمل أن يتعرض لشآبيب الرحمة الحسينية وهو يحث الخطى مع السائرين المؤمنين عله يتعرض لتلك النفحات الحسينية الهادية ويتحول تدريجيا إو فجأة إلى أحسن الحال، وكيف لا يكون كذلك وهو يحيي ذكرى رحمة الله الواسعة التي هيأها الله تبارك وتعالى للعباد لانتشالهم من المهاوي والتبعات.إنّ الإمام الحسين عليه السلام ضمن بدمه وبشعائره بقاء الإسلام، ولو لم يكن الإمام الحسين عليه السلام ودمه الطاهر لما كنّا اليوم نصلّي ولما كان هناك من يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولما كانت ثمة مناقبيات تشعر كوننا بشر وتشعر كوننا نعيش بعزة وكرامة بين الشعوب، وللحفاظ على تلك المعطيات ينبغي علينا أن نشارك في خدمة قضية مولانا سيد الشهداء عليه السلام باليد واللسان والمال وما شابه ذلك، وعلى كلّ فرد حسب قدرته وطاقاته أن يخطو ويقدّم الخدمة الحسينية ثقافية كانت أم خدمية، من كان ذا علم يخدم بعلمه وذا مال كثير بماله وذا صوت بصوته وذا فن بفنه وذا ابداع بإبداعه وذا جوارح بجوارحه وهكذا..إنّ احياء ذكرى سيد الشهداء عليه السلام فكرا وزيارة واطعاما وتحمل الصعاب في ذلك ذو قيمة عظيمة جداً وبالأخصّ النشاطات التبليغية بالأخص في شهري محرّم وصفر، وإن كان الإمام الحسين عليه السلام يتعلّق بكلّ أشهر السنة؛ فهو عزّة الإسلام، والإسلام لا يتحدّد بوقت وزمان، حيث إن الإمام الحسين عليه السلام ألطافه موجودة وأنواره ساطعة دوماً، فحري بنا جميعا أن نكون أهلاً لنيل هذه الألطاف وهذه الأنوار.لا يزال العاشقون السائرون في دروب الحرية والكرامة الحسينية يتوافدون على مرقده الطاهر منذ أن استشهد الإمام الحسين عليه السلام بل وقبل ولادته وإلى يومنا هذا وينهلون من نميره الصافي ويشمون أريج عبقه الناشي، لا يزال الكثير من الناس يدخلون الجنة بسبب الإمام الحسين عليه السلام، فقد خصّ الله تعالى قضية الإمام الحسين عليه السلام بأن جعل لمن يعمل في إحيائها وتعظيمها استثناءات خاصة وواسعة بحيث باتت البشرية منبهرة تجاهها، فكم من الناس قضيت حوائجهم بفضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام لاسيما تلك التي تؤدى مشيا على الأقدام، وكم منهم من شفي مرضاهم، وكم منهم من تيسّرت أمورهم، فذلك كثير جداً ويصعب عدّه وإحصاؤه، علينا أن نكون يقظين دوماً في أن لا يُسلب منّا توفيق الخدمة في سبيل قضية مولانا سيد الشهداء عليه السلام أبداً بعد كلّ تلك السنين التي قضيناها من عمرنا في سبيل ذلك، وأن لا نكون من الذين تنتظرهم العاقبة السيئة.ليس الضالّون والمذنبون وحدهم يهتدون بالإمام الحسين عليه السلام، بل كلّ إنسان مهما علت درجته يهتدي بالإمام الحسين عليه السلام، وطالما يسعى العاشقون للترقّي أكثر والتحلّي بأخلاق أفضل والتكامل في الهداية بالإمام الحسين عليه السلام، حيث إنّ مولانا اﻹمام الحسين عليه السلام لا يخصّ الشيعة فقط بل هو للإنسانية جمعاء، فالكثير في مشارق اﻷرض ومغاربها يؤدون الشعائر الحسينية ويتلذذون وينتشون بما يبذلونه من جهد جسدي أو مالي أو فكري وبما تواجههم من مخاطر وقتل من قبل الإرهابيين والحاقدين، لما يعتبرونه دين ضئيل يؤدونه للحسين عليه السلام حيال ما قدمه للدين والإنسانية بكل ما يملك ليهب لنا الحياة الحرة الكريمة.فأتباع أهل البيت يعتبرون المشي لزيارة الإمام الحسين عليه السلام هو إغراق في الثبات على الولاية وهو أدنى حب وولاء لتضحيات ذلك المولى المقدس وما قدمه في سبيل الإنسانية لانتشالها من الجهالة وحيرة الضلالة وإيصالها إلى مرفأ الإيمان والتقوى والفضائل ومكارم الأخلاق، وطالما إن الإنسان وهو يعيش في خضم التداعيات المادية المقيتة بحاجة إلى تلك المضخات المعنوية لكي يصنع حياة مفعمة بالتقدم والزهو واحترام حقوق الإنسان وبالتالي تشييد مجتمع حضاري يستند على معطيات معنوية خالدة، وهي في الحقيقة مفخرة ليست لأتباع أهل البيت عليهم السلام، بل للإنسانية المتعطشة إلى قيم أصيلة يجدها الإنسان شاخصة بسيرة وعطاء ومواقف الحسين عليه السلام، وتكون ماثلة لجميع أولئك المقتفين لأثره والسائرين إلى ضريحه لتجديد العهد والولاء لنهجه الخالد ومواقفه الرائدة التي لا تزال تبث في الوافدين إليه الأمل والشوق رغم المشاق والصعوبات التي تواجههم في مسيرتهم الرائدة تلك.
https://telegram.me/buratha