الحاج هلال فخرالدين
يقر في أذهان أصحاب المشروع السياسي الإسلامي وفي ذهن الجمهور الأوسع من عامة المسلمين أيضاً أنهم في نشاطهم وعملهم السياسي لإقامة نظام حكم إسلامي (ما) إنما يتخذون من الرسول قدوة ويحذون حذوه. ولكن أن منهج عمل هذه التنظيمات والجماعات على اختلافها يخالف جوهرياً وبخط مستقيم منهج العمل الذي اعتمده الرسول لإظهار وبسط وإنفاذ دعوته.ان الرسول انتهج سياسة البلاغ والاصلاح كي يتمكن من حماية دعوته والخروج بها على الناس ونشرها أي أن الرسول توسل عناصر الدنيا كي ينقل عبرها وبواسطتها رسالته الدينية. فلم يكتف بالإبلاغ عما كان يصله من الرسالة بل عمد في مكة منذ اللحظة الأولى إلى خلق تنظيم فريد شكّل سابقة حيرت القرشيين الذين لا عهد لهم بمثله وكان هذا التنظيم يقوم على أساسين: أولهما ديني يقوم على تصديق ما نزل على الرسول والتسليم والإيمان المسبق بما سوف ينزل عليه لاحقاً ذلك أن الدعوة كانت حديثة العهد لم تكن قد اكتملت ولم يكن قد تكشف منها إلا أقلها وهذا ما يندرج في السياق الديني والأساس الثاني هو الالتزام بتعليمات الرسول وأوامره والتسليم بقيادته هذا ما يندرج في السياق السياسي المحض وليس في شيء من صلب الدعوة الدينية. ويمكن القول إن الرسول انسان ويخطط للناس وفق الظروف وتداعيت الاحداث وفق منطق التاريخ إلى سلوك هذا السبيل «السياسي» ليحول دون تحول دعوته إلى ظاهرة غيبية اوعابرة في تاريخ شبه الجزيرة العربية المعتادة على الكثبان الرملية التي تراكمها الريح فتعلو ثم لا تلبث أن تذروها فلا قرار لها. ومع نمو الدعوة نما التنظيم في مكة وباتت الاحتكاكات اليومية بين أفراد هذا التنظيم (المسلمين الأوائل) وبين أهل مكة (المشركين) تهدد باندلاع أزمة أو قتال يشكل خطراً على الدعوة برمتها فكان قرار الرسول بالصبر والمهادنة أولاً ثم بأن يهاجر قسم كبير من أفراد «تنظيمه» إلى الحبشة للتخفيف من تلك الاحتكاكات درءاً لمعركة قد تنشب قبل أوانها وتتحول إلى حرب داخلية يكون وقودَها القرشيون وهو ما لم يرده الرسول الذي أراد للقرشيين أن يدخلوا في الإسلام وافرين ليكونوا كما رآهم وكما كان لهم أسياد العصر الجديد الذي افتتحته الدعوة. وكان قرار الرسول نافذاً بصفته السياسية كزعيم تنظيم لا بصفته الدينية ذلك أن الرسول في سفرات كثيرة خارج مكة كان يعرض نفسه ودعوته على القبائل لنصرته وقرار الهجرة إلى الحبشة ومعظم القرارات السياسية التالية لم تكن أوامر سماوية جاء بها الوحي بل تدابير بشرية (سياسية) لصيانة استمرار تدفق الوحي إلى الرسول واستمرار تدفقه تالياً إلى قلوب/عقول عامة الناس. وهي تدابير كان الرسول يستشير صحابته بهاواشراكهم في تحمل المسؤلية.2ـ كان على الرسول إذاً أن يقوم بدور الزعيم السياسي ورئيس (الدولة) حين اقتضى الأمر منه ذلك في المدينة ذلك فضلاً عن دوره الأساسي بصفته (المذكِّر) لكن السؤال هنا هو هل ان الرسول قام بدورين او تقمص شخصيتين رسالية وسياسية ؟وما هو الردء للاخر ؟ اوأيهما الأساسي وأيهما العارض؟ في التدقيق حول السؤال الاول نلاحظ ان الرسول دوره تبليغ الرسالة وتدعيمها بما هو ضرورى ومناسب وحول الثانى فان دوره السياسيى مكمل لتبليغ الرسالة ومن هنا يمكننا أن نمسك بالخيط الذي يوصلنا إلى إدراك انقلاب (الإسلام السياسي) على منهج الرسول باسم الاقتداء به واقتفاء سنته. فمن الواضح لكل متتبع لسيرة الرسول أنه لم يكن يبتغي ملكاً ولا منصباً دنيوياً على حساب دوره الرسولي وإلا لقبل منذ البدء بما عرضه عليه المغيرة بن شعبة باسم زعامات قريش من تمليك وسيادة وثروة. الرسول هو في البدء والمنتهى متلق ومبلغ رسالة سماوية وكل ما سوى ذلك إنما هو أشياء عارضة قياساً على دور الرسول وعلى نشر الدعوة أشياء اقتضاها العمل على إيصال وإنفاذ الدعوة. وكان الرسول قد شهد محدودية دور الوعظ والدعوة في المحيط الاجتماعي الذي عاش فيه حين افتقر الوعظ مهما علا شأنه وسمت مراميه إلى حامل له أي إلى تنظيم يحمله كما كانت مثلاً حال الأحناف الذين كانت دعواتهم تذهب أدراج الرياح؛ فرأى أن نجاح الدعوة يستدعي التنظيم والانضباط ومركزية القيادة أي يستدعي اعتماد العمل السياسي كحام وحامل للدعوة.3ـ الدعوة الإسلامية الأولى استندت إلى سبل سياسية كي تقف على قدميها وكان الرسول لا يتوانى عن تذكير أنصاره ومعارضيه بالثمار (السياسية) التي يمكن جنيها من وراء الدعوة فيشحذ في نفوسهم الهمم الدنيوية. فمن الوعد بكنوز كسرى إلى العمل على مناوشة الروم ومن مغازلة الزعامات الجاهلية (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) إلى تأليف القلوب مسيرة سياسية دنيوية أراد الرسول بها تمهيد السبيل أمام الدعوة وإدخالها في النسيج الفكري والنفسي للعرب وجعل الدنيا تجر قاطرة الدين إلى محطة اكتماله. فكان خاتم النبيين (يفتي) في السياسة ما ترى فيه عين عقله خدمة لمسيرة الدعوة إلى الدين الإسلامي الذي كان في طور التكوين. ومعروف كم كانت الدنيا ولا تزال تسرق العربي من نفسه فالقبائل التي كان الرسول يعرض نفسه عليها كي تحميه حتى يبين عن الله ما بعثه من أجله كانت تزن العرض (الرسولي) دنيوياً بميزان الربح والخسارة لم تكن تهتم بأمر الدعوة بما هي كذلك فحين عرض الرسول نفسه مثلاً على بني عامر بن صعصعة قال رجل منهم (والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب) وسألوه أيكون الأمر لهم من بعده إن أظهره الله على من خالفه، فحين أجاب الرسول بأن الأمر لله يضعه حيث يشاء رفضوا حمايته. إذاً، الميزان الذي تعامل به العرب مع الدعوة في بدايتها ميزان غير ديني لا يبالي بمضمون الدعوة بل بجدواها الدنيوية. فلا غرو والحال كهذه أن يجعل الرسول مكاسب الدنيا حافزاً لقوم هذا ما يحفزهم.4ـ ومهما يكن من شأن الباحثين الذين يقللون من الدور السياسي للرسول أمثال علي عبد الرازق في (الإسلام وأصول الحكم) (وللدقة نقول إن علي عبد الرازق يسعى في كتابه الشهير المذكور إلى نقد فكرة الخلافة -سياسة التسلط باسم الدين-وهو في هذا المسعى ينتصر بحق لفكرة أن الدور السياسي للرسول خارج عن دوره كرسول وأن الرسول لم يكن مكترثاً ببناء دولة وأنه استمد نفوذه من سطوته الدينية اللاسياسية وهو كلام فيه نظر وهذه الزاوية في تناول الموضوع تدفع في الواقع إلى التقليل من شأن العمل السياسي للرسول) أو يبالغون في رسم صورة الدولة (المكتملة والكاملة) التي أسسها الرسول في المدينة أمثال عبد المعطي بيومي في (الإسلام والدولة المدنية) فالثابت أن السياسة هي التي نهضت بالدعوة وأن دينامو الدعوة كان يدور بوقود سياسية في الغالب وأن وجود الرسول كان يشكل ضمان عدم سيطرة السياسي على الديني أو بقاء الدينامو (السياسي) يعمل في خدمة الدعوة وتهيئة شروط استمراريتها. ولكن ما إن غاب الرسول بعد أن أعلن اكتمال الدين حتى سيطرت السياسة على كامل المشهد بلبوس الدين وراح المحرك السياسي يعمل مستقلاً في الجوهر عن متطلبات الدعوة الدينية لخدمة متطلبات (تنظيم أو منظمة الدعوة) إن صح القول. من الصراع (السياسي) على الخلافة إلى حروب الردة (السياسية) إلى غيرها من شؤون الصراعات السياسية. ولعل من المفيد هنا التذكير بموقف احد شيوخ الصحابةعمر بن الخطاب من حروب الردة فقد أنكر الأخير على أبي بكر قتاله المعترضين او المعارضين الذين وسموهم (المرتدين )وقال: (كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله). وموقفه الصريح من مقتل مالك بن نويرة على يد خالد بن الوليد واستنكار ذلك (لارمينك باحجارك) لزناء خالد بزوجة مالك . ومن المفيد أيضاً التذكير بأن آخر من أسلم من العرب علي يد الرسول (مكة والطائف) هم من حملوا في مفارقة تلفت الأنظار مع الأنصار لواء حروب الردة بعد أن أدركوا الآفاق السياسية التي تهيئها لهم الدعوة.5ـ في هذه المرحلة أي بعد أن اكتمل الدين وانقطع الوحي بوفاة الرسول انقلبت العلاقة بين الدين والسياسة ففي حين كانت السياسة في خدمة الدين بدأت تتكرس علاقة أخرى يعمل الدين فيها على خدمة السياسة وبدأ تسويغ الأعمال السياسية بالمبررات الدينية او التماس المبررات الدينية . ولعل أول ظاهرة من هذا النوع كانت تسمية حروب الخليفة الأول التي خاضها لبسط التسلط السياسي هذه الحروب التي سميت بحروب الردة للدلالة على محاربة المرتدين عن الإسلام في حين كانت هذه الحروب في جزء كبير منها لمحاربة المرتدين عن الانقياد لغير رسول الله. ذاك هو الخيط الذي ظهر غداة وفاة الرسول وطال وامتد حتى يومنا هذا. فانقلب المشهد من سياسة غايتها تهيئة شروط نقل الدعوة وإكمالها، إلى سياسة تبرر لنفسها بالدين. من دعوة تعتمد على ما للسياسة من فاعلية وقوة حشد كي تنمو وتنهض وتنتشر، إلى سياسة تعتمد على ما للدين من قوة وكرامة مستحقة في قلوب الناس كي تنمو وتحشد وتصل إلى غاياتها. من دين اعتمد على الدنيا إلى دنيا تعتمد على الدين. لكنها، في الحق، دنيا غير الدنيا ودين غير الدين.6ـ ولئن كان الرسول (يفتي) في السياسة بما يخدم نشر الدعوة والوصول بها إلى كمالها معرضاً من الدنيا عن كل ما لا يكون في خدمة الدعوة مهما كان ومتواضعاً في السياسة إلى حد التخلي عن صفة (رسول الله) في صلح الحديبية مثلاً راضياً بأن يوقع الاتفاق باسم محمد بن عبد الله خدمة لمسيرة الدعوة وتمهيداً لها فإن الجماعات الإسلامية السياسية اليوم (تفتي) في الدين ما يساندها في تنفيذ سياساتها معرضة من الدين عن كل ما لا يكون في خدمة دنياها وغاياتها السياسة. والشيء نفسه ينطبق على التنظيمات الإسلامية المعارضة والموالية سواء بسواء. فتجد ما لا يحصى من الفتاوي والاجتهادات الدينية التي تعكس ما لا يحصى من المصالح والأطماع الدنيوية. ما جعل الدين غلافاً للمصلحة بدلاً من أن يكون جوهراً روحياً بذاته يؤلف بين الناس وإن اختلفت دياناتهم.
https://telegram.me/buratha