قاسم العجرش
إن انبثاق الوعي الديمقراطي الإصلاحي المشارك، واندماج جزء من القوى الرافدة لقيمه والمسكونة بهواجسه والحاملة لآماله في النسق السياسي الشرعي من موقع السلطة التنفيذية، وتدشينها لمرحلة جديدة في تدبير الشأن العمومي خلال فترة ما سمي '' التناوب التوافقي والانتقال الديمقراطي ''وما بعدها، وتأثيثه لمعمار الثقافة السياسية ، إن كل ذلك يختلف اختلافاً بيّناً وجذريا عن الوعي السياسي كما تجلى خلال مجمل تاريخنا المعاصر، لاسيما في فترة ما بعد التغيير التيساني الكبير عام 2003، والذي تميز في العموم بالصراع الحاد حول السلطة والحكم والنزاع الشديد حول المشروعية بين القوى المشاركة في العملية السياسية من جهة والقوى الرافضة لها أساسا بمختلف روافدها وأطيافها وأذرعها العسكرية والسياسية من جهة أخرى.
ووجه المقارنة يختلف من زاويتين: الأولى هي أن الحراك السياسي لفترة ما بعد التغيير يكاد يكون مستمراً كتعبيرٍ عن حراكٍ ونشاطٍ سياسي للنخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية ذاتها التي عارضت النظام الصدامي وأسهمت في اسقاطه بشكلٍ من الأشكال، والتي كانت مرجعيتها السياسية وأصولها التنظيمية تؤول في آخر التحليل إلى تشكيلات وأنوية الحركة الوطنية العراقية، ومن ثم لم يكن هناك انقطاع ما أو فجوة في الأجيال أو الأطياف السياسية أو حتى الإيديلوجية. إن التاريخ هنا بمعنى من المعاني هو تاريخ مستمر موحد متعاقب مع اختلافٍ في التفاصيل والوقائع وعددها وحجمها.
أما '' انفتاح المسلسل الديمقراطي وما أفضى إليه من تطور نوعي وصل في أقصى مراحله إلى حد التناوب التوافقي''، فقد كان أشبه بالطفرة في تاريخ السكون المتصل المشار إليه. صحيحٌ أن تاريخنا الحديث شهد حركات معارضة اختلفت في الحجم والخطاب والأداء والممارسة والتأثير والتركيب الفكري والايديلوجي، لكنها ما استطاعت أن تتصالح مع المجتمع ككل ومع قواه الشعبية كجزءٍ من تكوينه، بل بقي خطابها يمتح من معين السلطة المرجعية ذاتها وظل وفيا لذات التطلعات التي كانت ترهن العقل السياسي للحركة الوطنية، وغدت هذه القوى المعارضة الطليعية ''الجديدة'' لا تختلف عنها في المنطق الداخلي للإدراك والتحليل، إلا في سعيها لاستبدال أهل الحكم وطبقته المتحالفة والقائدة بأهلها هي و''بديلها في النخب الصاعدة''، أما ممارساتها وآليات عملها فقد كانت أشبه بعمل الأحزاب الشمولية الكليانية والإيديلوجية ذاتها، التي خرجت من أحضانها أو المتحالفة مع منطقها. هذا بالتأكيد، لا ينفي التضحيات ''النبيلة'' التي قدمتها هذه المعارضة خلال صراعها ضد قوى الاستئصال والهيمنة السلطوية، ولا يخفي حجم القمع والكبت والحصار الذي مورس عليها قيادات ونخبا وأدوات للدفاع الذاتي في التنظيمات الجماهيرية، ولا يغيّب سوء المقارنة أحياناً بين السلطة والمعارضة لجهة تشابه المنطق والخطاب، ذلك أن فساد السلطة واستشراءه في رجالاتها ونخبها المتنفذة لا يقارن مع التعفف الأخلاقي والعذرية المتطهرة التي ميّزت رجالات المعارضة ونخبها على اختلافهم في الأداء السياسي العام بالرغم مما شاب هذه الصورة من نتوءات.
https://telegram.me/buratha