عباس عبود سالم/القاهرة
كلما مرت علي ايام عاشوراء، اجد نفسي سابحا في فضاءات ربانية، لم اجد مثيلها في اي ايام اخرى، على مدار العام، ففي عاشوراء، تتوضأ مدننا الصغيرة، المهملة، بمياه نهر الحزن الخالد، هذا النهر الذي روته دموع المخلصين على مر التاريخ، ليسقي احزان الارض، وماعليها من شجر، و الغيوم، وما تحمل من مطر، وهذا الكم الهائل من الحزن يتدفق فينا كالشلال، ولم يزل يسكن خزائن ذاكرتنا التي تحمله، اينما رحلنا في دنيا الله الواسعة.
وقد ادركت تاريخ الحزن الحسيني منذ بواكير الطفولة، حين كان ابي يصطحبني الى مواكب العزاء، التي تقام في مدينتنا الصغيرة، منتصف سبعينات القرن الماضي، وكنت اجد نفسي مبهورا بهذه المظاهر، التي لم اشاهدها في التلفزيون، ولم اسمع عنها في المدرسة، الامر الذي دعاني لاواجه والدي بعصف من الاسئلة، وكان (رحمه الله) يجيبني على بعضها، ويؤجل الاجابة على البعض الآخر.
كان المسؤول عن تنظيم مجلس العزاء في منطقتنا، رجل وهب حياته، وكل مايملك، لاقامة هذه الشعائر، الى ان اصبح صاحب شهرة زادته بساطة وتواضعا، يؤومه الناس من اماكن بعيدة، ليتبركوا، ويشاركوا في المواكب، وفي خدمة المعزين، وهو عادة مايستقبل مئات الرجال والاطفال والشيوخ والنساء بحفاوة وادب جم، انه السيد جاسم، الشيخ الستيني الذي مازالت صورته مطبوعة في ذاكرتي وهو يعتمر كوفيته السوداء وعقاله الجنوبي، ووجهه المشرق بلحيته البيضاء التي منحته وقار، وهيبة، تتناسب وقامته النحيلة.
ورغم ان السلطات بدات عام بعد عام تضايق السيد، وتضيق الخناق على هذا المجلس، وتزرع عيونها، وازلامها، ليندسوا بين الجموع، الا ان ذلك لم يثني من عزم سيدنا النبيل، فمنذ يوم الاول من شهر محرم، يشرف على نصب السرادق، وقدور الطعام، وطريقة توزيع اباريق (الشاي) و(الدارسين) التي تقدم لالاف المعزين طوال ايام العزاء، وكذلك يشرف على تفاصيل المنبر، وخطبائه، وكذلك الرواديد، والشعراء، وعندما ينتهي موسم عاشوراء، يعيش السيد جاسم عامه كاملا، وهو يستعد لعاشوراء المقبل.
وفي كل عام، صرت اذهب مع اصدقاء طفولتي لمجلس العزاء الذي يقيمه السيد جاسم، لانه صار جزء من تكويني، وحاجة روحية لايعادلها امر آخر، لكني صدمت ذات مساء بخبر شاع في المنطقة، يقول ان سيارة (لاندركروز) بيضاء تابعة لجهاز الامن، جائت الى منزل السيد، وقالوا له ان هناك طلب استدعاء له، وبهدوء ترجل الفارس من جواده، وصعد (لاندكروزهم) المخيفة، ليركب معهم، ولم ترافقه في سفرته هذه، الا النظرات الخائفة، المرتبكة، لاهالي المنطقة، الذين ربما تصوروا ماينتظر السيد من مصير، لكنهم تصنعوا الانتظار.
ليلة طويلة تمضي والناس بانتظار عودة السيد، وقال بعضهم ربما ياتي غدا صباحا، ولكنه لم يعد، وتكرر مشهد الانتظار حتى جاءت ايام عاشوراء... فلم تجد السرادق من ينصبها، ولم يجد الناس من يدعوهم للعزاء، ويستقبلهم وينظمهم، فلم يجد العزاء رجل يقيمه، لم يبقى الا انين الزقاق، ومشاعر الخوف، من بطش سلطة اختارت ان تصطف خلف معسكر الجيش الاموي.
وسنة بعد اخرى صار الانتظار طقسا جديدا، يمارسه الناس مع انظمام مجاميع من الشباب والشيوخ لسجل من اختفوا، او اختطفوا، او اعتقلوا، او حوكموا (بتهم سياسية)، بعدها لم يتوقف الناس في منطقتنا، بل تمسكوا بممارسة الطقوس ولكن في مواكب سرية، اخذت تنظم داخل المنازل، وبعض المساجد والحسينيات، لكن ذاكرتي ظلت تحن الى ذلك الزقاق.. حيث يقام مجلس السيد جاسم، الذي كان يجمع الناس على اختلافهم، ويطعمهم زاد روحاني، قل نظيره.
عشر اعوام مرت، وعشر اعقبتها، والسيد لم يعد، وها نحن نبعد خمس وعشرون عاما عن حادثة اختطاف رجال الامن للسيد، ويبدو ان لا امل للعودة، فقد رحل جيل كامل من رجال ذلك الزمان، وجاء جيل آخر، ورغم أن الزقاق لم يعد صامتا، كونه مشغول بمواكب ومجالس واغراض متعددة، لكني من القلائل الذين مازالوا ينتظرون عودة السيد جاسم، ليقيم مجلسه الخالد، الذي يبدو انه صار جزء من مكونات نهر الحزن الخالد.
ففي كل محرم كانت السلطة تنكل بالناس، وتنفذ حكم القتل، وتقطيع الاوصال، حتى بلغ الضحايا اعداد هائلة، واليوم رغم سقوط تلك السلطة، لكن تبعثر مكوناتها ودعائمها، جعل منها كالافعى، التي تقطعت اوصالها، ومازال السم في (راسها) يبحث عن الانسانية ليينفذ (سمومه) في دمائها النقية.
مايحصل من تفجير وقتل واستهداف لمواكب الزائرين والمعزين، هذه الايام وفي الايام والسنوات التي مضت، ماهو الا نتيجة (لسموم تأريخية) ولدت منذ هزيمة المشركين في (بدر) لترافق مسيرة نهر الحزن الخالد، لمن سار على درب الرسول، ومن احبه، ومن احب وناصر سبطه يوم عز الناصر، وفي كل عام يكبر النهر، اذ ترويه دموعا، ودماء جديدة، لضحايا جدد، ويتضخم السم في جسد (الافاعي) ليزدادوا غيضا، وحقدا، وحنقا، على اناس لم يرتكبوا اكثر من ممارسة الحزن ذنبا، فالحزن على مايبدو، جناية لدى احفاد الافاعي، وابناء الثعابين، وان حاولوا الظهور كل مرة بمسميات جديدة.
فهم مازالوا يمارسون القتل ضدنا ونحن نمارس الحزن، يسفكون دمنا، ولايبقى الا دموع الاحبة تروي نهر احزاننا الخالد، ثم نتوارى الى النسيان، لان الاحبة سينشغلون باحزان جديدة.. فمن منكم يتذكر السيد جاسم، بالتأكيد لااحد...
نشر في البيان البغدادية
https://telegram.me/buratha