حسن الهاشمي
كان كجده رسول الله صلى الله عليه وآله رحمة للعالمين، ينزل غيثه مدرارا على العدو والصديق على المخالف والموالف على البعيد والقريب، لا فرق في ذلك فهم سواء من ناحية وجود مقتضى الرحمة في كينونته وذاته، ولكن وجود مانع الذنوب والطمع والجشع هو الذي يحرم البعض من الإنتهال من معينه النابض وبحره اللاحب وكرمه الدافق، وكيف لا وهو مصباح هدى وسفينة نجاة، مصباح هداية ليس لشيعته ومحبيه فحسب بل للإنسانية جمعاء، وسفينة نجاة لكل من يريد العيش بكرامة وعزة، أولئك لا محالة يجدون مجدهم وشرفهم بالإلتحاق بركب المسيرة الحسينية التي تصلح كل اعوجاج يصيب الأمة منذ انطلاقتها حتى قيام الساعة. فالقلوب أوعية أفضلها أوعاها، وقمة الوعي والإدراك عندما يكون الإنسان نصيرا للحق وإمام الحق ذلك الإمام الصائن نفسه من الذنوب الحابس ذاته في الله الذي لا يريد سوى العزة للمسلمين، بخلاف تلك القلوب المنكوسة التي لا تستقبل رحمة السماء كما الأرض السبخة التي لا تزيدها الأمطار إلا آسانا، بينما الأرض الخصبة فإنها تزداد وتزدان خضرة وروعة كلما هطلت عليها الأمطار، وكلما تعرضت للرحمة أكثر كلما كانت أزهى وأطرى وأغنى.ونحن في هذا المقال نستعرض حدثين تأريخيين أحدهما لتلقي الرحمة الإلهية والآخر للإبتعاد عنها، لنستلهم منهما ذينك النمطين من المسيرة الحسينية الخالدة التي هي مليئة بنماذج مشرقة قد شرفت التاريخ بمواقفها النبيلة سواء التي صدرت من الأصحاب أو أهل بيت النبي وسجلها التاريخ بأحرف من نور ظلت وإلى أبد الدهر منارا مضيئا ينير درب من يتوق إلى الحرية والإنعتاق من كوابل الدهر وأصفاده، وأخرى معتمة قد سودت وشوهت صفائح التاريخ وكانت وبالا على مقترفيها ومن تبعهم بإذلال إلى قيام الساعة.فعندما عَلِم الإمامُ الحسين عليه السّلام أنّ يزيد بن معاوية أنفذ إليه من يقتله في مكّة ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة المشرّفة، فخشي عليه السّلام أن تُنتهَك حُرمة البيت الحرام، لذا خرج من مكّة المكرّمة يوم التروية ( الثامن من ذي الحجّة سنة 60 هجريّة ) بعد أن خطب فيها معلناً نهضته، قائلاً في ختامها: ألاَ ومَن كان فينا باذلاً مهجتَه، مُوطّناً على لقاء الله نفسَه، فلْيَرحَلْ معنا؛ فإنّي راحلٌ مُصبِحاً إن شاء الله.وسار الموكب الحسينيّ نحو كربلاء.. وكان هنالك موكبٌ آخر يسير بزعامة زهير بن القَين يحوي نفراً من البَجَليّين والفَزاريّين، جانَبوا الحسين عليه السّلام ولم يرغبوا في مُسايَرَته والنزول معه، قال بعضهم: كنّا مع زهير بن القين، أقْبَلْنا من مكّة نُساير الحسين عليه السّلام.. إذا سار تخلّف زهير، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير، حتّى نزلنا في منزلٍ لم نجد بُدّاً من أن نُنازِله فيه، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جُلوسٌ نَتَغدّى إذْ أقبل رسولُ الحسين، فسلّم ثمّ دخل، فقال: يا زهير بن القَين، إنّ أبا عبد الله الحسين بن عليّ بعثني إليك لتأتيه، قال: فطرح كلُّ إنسانٍ ما في يده، حتّى كأنّنا على رؤوسنا الطير! فأحجَم زهير قليلاً.. وهنا نادَته زوجتُه دَلْهَم بنت عمرو: أيَبعَث إليك ابنُ رسول الله ثمّ لا تأتيه؟! سبحان الله! لو أتيتَه فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفت.فذهب زهير.. فما لَبث أن عاد مُستبشراً قد أسفَر وجهُه، فأمر بفسطاطه وثِقله ومَتاعه فقُدّم له، وحَمَله نحو الإمام الحسين عليه السّلام، ثمّ قال لأصحابه: مَن أحَبَّ منكم أن يَتبعني، وإلاّ فإنّه آخِرُ العهد، إنّي سأحدّثكم حديثاً:غَزَونا بَلَنْجر ففتح اللهُ علينا وأصَبْنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهليّ: أفَرِحتُم بما فَتَح اللهُ عليكم وأصَبْتُم من الغنائم ؟ فقلنا: نعم. فقال لنا: إذا أدركتم شبابَ آلِ محمّد فكونوا أشدَّ فَرَحاً بقتالكم معهم بما أصَبْتُم من الغنائم، ثمّ قال زهير: أمّا أنا فإنّي أستودعكمُ الله. (تاريخ الطبري 6/225). حبيب بن مظاهر، زهير بن القين، وهب النصراني، وغيرهم من الأنصار الذين كانت قلوبهم عامرة بذكر الله فأضحوا مشاعل نور تقذف البشرية بحزم الهداية والذود عن الحرية والكرامة بأجلى وأنصع صورة، هنا يقف الإمام الحسين - روحي فداه- مخاطباً أصحابه وأنصاره داعياً لهم بقوله: إني لا اعلم اصحاباً أوْلى ولا خيراً منْ اصحابي ولا اهل بيتٍ أَبَرَّ ولا أوصلَ منْ اهل بيتي فجزاكمُ اللهُ جميعاً خيراً، إن أصحاب الإمام الحسين في يوم عاشوراء وصلوا إلى مرتبة من العظمة ربما لم يصل إليها حتى حواريي رسول الله وأمير المؤمنين عليهما وآلهما الصلاة والسلام في الدفاع عن الدين والمبدأ والقيادة. والحدث الآخر هو لأولئك الذين تعرضوا لنفحات الرحمة الإلهية ولكن ذنوبهم وأهواءهم حالت دون الإستفادة من تلك النفحات التي لا يتلقاها إلا ذو حظ عظيم، أمثال عبيد الله بن الحر الجعفي، قال صاحب خزانة الأدب الكبرى: لما ورد الحسين (ع) قصر بني مقاتل رأى فسطاطا مضروبا ، فقال: لمن هذا ؟ فقيل : لعبيد الله بن الحر الجعفي، فأرسل إليه الحجاج بن مسروق الجعفي ، ويزيد بن مغفل الجعفي فأتياه وقالا : إن أبا عبد الله يدعوك، فأبى نصرته، قال يزيد بن مرة: حدثني عبيد الله بن الحر قال : دخل علي الحسين (ع) وما رأيت أحدا قط أحسن ولا أملأ للعين منه ، ولا رققت على أحد قط رقتي عليه حين رأيته يمشي وصبيانه حوله ، فقال الحسين : ما يمنعك يا بن الحر أن تخرج معي!؟ فقال ابن الحر : لو كنت كائنا مع أحد الفريقين لكنت معك ، ثم كنت من أشد أصحابك على عدوك ، فأنا أحب أن تعفيني من الخروج معك ، ولكن هذه خيل لي معدة وأدلاء من أصحابي ، وهذه فرسي المحلقة فوالله ما طلبت عليها شيئا قط إلا أدركته ولا طلبني أحد إلا فته ، فاركبها حتى تلحق بمأمنك، قال الحسين (ع) : أفهذه نصيحة لنا منك يا بن الحر؟ قال : نعم والله الذي لا شئ فوقه ! فقال له الحسين : إني سأنصح لك كما نصحت لي إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ، ولا تشهد واعيتنا فافعل ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا أكبه الله في نار جهنم. فالحسين (ع) في كل موقف من هذه المواقف يلتقي فيها شخصيات لا تريد أن تكون له أو عليه، وتتشبث بأعذار واهية هربا من نصرته، ولكنه يشفق عليها ويقترح لها طريقا يجنبها النار، وذلك بأن لا تسمع له واعية، وكما أسلفنا فالإمام الحسين رحمة الله المهداة إلى العالمين بكرمه .. بعطفه .. بحنوه حتى على أعدائه، فقد سالت دموع أسفه على قاتليه قبل أن تسيل دماؤه على رمضاء كربلاء، كان يرغب أن يكونوا رفقاؤه في الجنة، ولكنهم أبوا إلا أن يحشروا مع إبليس وأعوانه، إنها الرحمة التي وسعت كل شيء...ترى: هل نستغرب بعد ذلك من منظر الحسين وهو يبكي يوم كربلاء خوفا على أعدائه أن يدخلوا النار بقتله؟!وهل كثير على الحسين أن نخاطبه: يا رحمة الله الواسعة؟! ولا زالت تلك الرحمة تبحث عن القلوب الواعية لتقذف بها شآبيب الحب الإلهي، أما القلوب التي فيها مرض فإنها عسى أن ترتشف من ذلك الينبوع المتدفق مادامت الحياة قائمة ومادام في الإنسان الغافل عرق ينبض فيه ومضة أمل تسعى للتحلق في رحاب الرحمة الإلهية المتجسدة في ذلك القلب الرؤوف الذي يتدفق عطفا ليس على محبيه فحسب بل حتى على أعداءه وعلى مدى الدهور.
https://telegram.me/buratha