علي محمد البهادلي
بعيداً عن السجالات المذهبية وجدل المتكلمين وأصحاب كتب الملل والنحل نريد أن نلج الذكرى من باب آخر ، له ارتباط بالحياة الاجتماعية والسياسية بشكل عام لا سيما الساحة العراقية ؛ لنأخذ العبرة التي نحن بأمس الحاجة إليها . ففي 18 ذي الحجة الحرام علم الرسول الأكرم محمد (ص) قرب رحيله بالرفيق الأعلى وأن هذه آخر حجة يحجها ، بينما المجتمع الإسلامي حديث التكوين ، والأخطار تتهدده من كل جانب ، فالخطر الخارجي المتمثل بالدولتين البيزنطية والفارسية ، والخطر الداخلي المتمثل بعدة أطراف تتحين الانقضاض على التجربة الفتية ، هكذا استشرف الرسول (ص) المستقبل وما يهدد التجربة ، لذا خطا خطوة كانت كفيلة بحماية التجربة من الانهيار ، وهي في الوقت نفسه دافعة لها باتجاه النمو والازدهار . فتش النبي (ص) عن شخص يمتلك مواصفات وسجايا تؤهله لقيادة الدولة الإسلامية ، بعيداً عن " المنسوبية والمحسوبية " والحس القبلي ، ورأى أن الضابط الوحيد يكمن في المؤهلات الحقيقية ، فوجد علي بن أبي طالب الذي عاش التجربة منذ نعومة أظفاره ودافع عنها بروحه وجسده ، وهضم مفاهيم الرسالة المرشح الوحيد للقيادة ، فهو أعلم القوم وأقضاهم وآمنهم وأزهدهم وأشجعهم وأبصرهم بكتاب الله وأوعاهم له حسب الأحاديث التي رُويت عنه (ص) ، فأعلنها على الملأ في غدير خم (( من كنت مولاه فعلي مولاه) ) ، فكيف يختار لقيادة المجتمع شخصاً آخر مع وجود من يمتلك مثل هذه الصفات ؟!هذه قصة غدير خم قصة إيجاد الرجل النزيه العادل ووضعه في منصب مسؤولية قيادة الأمة ، وليست القضية قضية مذهبية وطائفية كما يحلو للبعض أن يظهرها به . أما العبرة المستوحاة من أريج هذه الذكرى ، فهي أن ينظر الشعب العراقي ، وهو على موعد قريب جداً من الانتخابات البرلمانية ، إلى المرشحين فمن منهم يستحق أن يكون ممثلاً حقيقياً عنه ؟ ومن يستحق أن يتولى منصب قيادة البلد ؟ إلى من يعطي صوته ؟ هل الإدلاء بالأصوات للمرشحين لقيادة البلد هو محض إسقاط فرض وطني ؟ أم أن الواجب الوطني يحتم على الناخب أن يكون على مستوى الحدث السياسي والاجتماعي ، وأن يحاول جهد إمكانه البحث عن الشخص الذي يتمكن من تحقيق العدالة الاجتماعية والنهوض بالواقع الحياتي والاقتصادي بل الثقافي أيضاً ، لا أن يختار شخصاً أو قائمة لمجرد كون دعايتها الانتخابية الآية : (55 ) من سورة المائدة التي تسلسلها حسب المصحف رقم (5) ، وهي : (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )) ، فالعدد ( 5 ) هنا له دلالته ، لكن من يتدبر الآية يجد مضمونها يدين من استغلها في سياق الدعاية الانتخابية ، فالإمام علي الإنسان والفرد المؤمن الذي لا يغيب عنه الناس طرفة عينٍ أبداً ، والذي يعيش معاناتهم في كل جوانحه وجوارحه، حينما يأتيه المحتاج وهو (ع) مستغرق في لذة القرب الإلهي وفي محضر ساحة إظهار العبودية لله ( تعالى ) لا يمتنع عن تقديم خاتمه صدقة وهو راكع ، إذ أومأ إ ليه أن انتزع الخاتم من إصبعي ، هذا سبب نزول هذه الآية الكريمة ، إن من يستحق أن يكون ولياً وحاكماً للأمة هو من يستشعر آلامها . أما من تسنم المناصب باسم علي فلا يستطيع المحتاجون أن يصلوا باب قصره ! فضلاً عن سؤاله قضاء حوائجهم ، فهل عليٌّ والآية التي نزلت فيه مجرد حبر على الورق أو كلمات تلوكها الألسن أم هما برنامج عمل يسير على وفقه من يريد إتباع الأسوة الحسنة ؟!وعلي الذي يصوم ثلاثة أيام هو وزوجه وابناه وفاءً لنذرٍ نذره وفي كل يوم عند موعد الإفطار يطرق الباب عليهم سائل فيعطيه ما ادخره لفطورهم ، وهو ما خلده القرآن الكريم بقوله : (( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً ، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً )) وكما قال الشاعرتجيع شبليك إشباعاً لذي سغبٍ وأنت تطعم أيتام الورى ضربا، هل يرضى أن يبيت الإنسان جائعاً ؟ وهو الذي يمتنع عن التلذذ بالمطاعم والملابس ، فلعل بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع ، أما سياسيونا فهم منعمون في بيوت الــ( دبل فاليوم ) وشقق المنطقة الخضراء ، وفندق الرشيد شاهد حي على البذخ والإسراف في الوجبات الغذائية والولائم التي تكفي مصاريفها لسد أفواه الآلاف من الجياع ، وكلهم يعلمون أن في العراق كوارث إنسانية و ملايين المهجرين والأرامل والأيتام ، وهم لا يبعدون عنهم سوى بضع كيلومترات ، ولا نطالبهم بتتبع ورعاية أحوال العراقيين لا في اليمامة ولا الحجاز !!! فضلاً عن الذين جابوا البلدان الغربية ، إما طلباً للرزق أو طلباً للجوء هرباً من إرهاب التكفيريين .علي الذي يتفقد الأسواق ويحض التجار على الأمانة وتجنب الغش والتحذير من التطفيف في الميزان ، هل يرضى أن يكتنز المسؤولون الذين تولوا السلطة باسمه ملايين الدولارات التي اختلسوها من بيت مال المسلمين ووزاراتهم ؟!! وهل يرضى أن يتأخر المسؤولون في وزارة التجارة في إيصال مواد الحصة التموينية ؟ وهل يرضى أن تتعاقد الوزارات مع الشركات الأجنبية لشراء سلع ومواد رديئة وغير صالحة للاستخدام وهو القائل )) ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعفَّ )) فمن تسنم منصباً وغدت أموال المسلمين في يديه ولم يتجاسر على الأمانة وعفَّ بطنه ، فهو عند علي كالمجاهد في سبيل الله . فيا أخواننا ـ العراقيين ـ لنعِ درس الرسول الأكرم الذي قدمه لنا في مثل هذا اليوم ، ونختار من يؤمِّن مصالح الأمة ، ويسهر على راحتها ، ويصرخ ويتأوَّه لمجرد رؤيته الأيتام والمحرومين متأسياً بعلي إذ يقول : ما إن تأوَّهت قط من أمرٍ رُزئتُ كما تأوهت للأيتام فــي الصغــــــر قد مات والدهم من كان يكفلهم في النائبات وفي الأسفار والحضر ويحترق ألماً لما يراه من ظلم يقع على الأبرياء والمستضعفين ، كما احترق قلب علي ؛ لأن جنود معاوية أغاروا على الأنبار ، واعتدوا على النساء غير المسلمات فضلاً عن المسلمات فيقول : (( ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمتنع عنه إلا بالاسترجاع والاسترحام ، ثم انصرفوا وافرين ، ما نال منهم رجلاً منهم كلم ، ولا أُريق لهم دم ، فلو أن امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً )) فالرعية أجمعهم نالتهم رحمته ورأفته ولم يميز في تقديم خدماته للناس على أساس الدين والقومية ، فهل في السياسيين اليوم من يستطيع أن يخدم الشعب كله دون أن يتأثر عمله بانتمائه السياسي أو الديني والقومي ؟!! إذاً يوم الغدير ليس يوم احتفال مذهبي تقام فيه الأفراح وتوزع بين الناس الحلوى ، لكنه درس توعوي بضرورة اختيار الشخص المناسب للمنصب المناسب.
https://telegram.me/buratha