بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
توطئة:في مدينة جده الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) وفي البيت الحرام وفي كربلاء وفي دربه الى الشهادة، وفي احلك اللحظات وهو يفقد احبته من اهل البيت وخيار اصحابة، كان شعار الامام الحسين عليه السلام: " إني لم اخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي "، (1) ولفظ الاصلاح يشير الى وجود انحراف يحتاج الى تقويم، وعندما يصدر هذا الحكم من الامام الحسين بن علي عليهما السلام، فذاك يعني ان الانحراف اصبح من الخطورة بمكان مما يستوجب أن يقوم الامام نفسه بالتصدي لهذا الانحراف.وأما في ثورة الامام المهدي عليه السلام فقد اخبر الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله : ان المهدي (عجل الله فرجه) " سيملئها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ". (2) ليكون نشر العدل والعمل بالقسط من اهم شعارات الامام المهدي (عجل الله فرجه) في نهظته المنتظرة. فالعدل هو المقابل الشرعي والعقلي للظلم، ونهظة وثورة كونية بحجم نهضة وثورة الامام المهدي (عجل الله فرجه) انما تمثل تعبيرا عن الحاجة لتخليص الاسلام من الانحرافات التي تواترت عليه بعد شهادة الائمة ووجود الحاجة لمصلح الهي يعيد الاسلام الى النهج الرسالي بعد ان تخلت الامة عن قيمها الرسالية لصالح القيم الوضعية.الذين تصدوا للانحراف الاموي:وكما حدث مع جده الرسول الختم في قضية المباهلة حين اخرج الرسول الاكرم اهل بيته للمباهلة اشارة منه الى اهمية الحدث كمفصل اساسي في حركة التاريخ، فقد خرج الامام الحسين من مدينة جده وهو يحمل الثقل الاصغر الذي نادى به الرسول الخاتم في غدير خم : " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي " تعبيرا عن قيمته الموازية للقرآن الكريم، مما يؤكد حجم الانحراف وابتعاد الامة عن الخط الرسالي الذي اراده الله عزوجل لها منذ ان بعث نبيه الخاتم بالرسالة، فاختيار الامام الحسين لهذه النخبة هو اختيار يتناسب طرديا مع حجم التردي الذي احاق بالاسلام فكرا وعقيدة وشريعة ومنهجا تطبيقيا على يد الدولة الاموية في اواسط القرن الاول الهجري.ففي هذا التفسير جواب على كل التساؤلات التي تطرح حول أسباب اصطحاب الامام الحسين عليه السلام لاهل بيته خاصة (النساء والرجال والاطفال بما فيهم طفله الرضيع، وولولده الامام علي زين العابدين عليهم السلام) وأيضا اصطحابه لاولاد اخيه الامام الحسن عليه السلام، ولمسلم بن عقيل بن ابي طالب واولاده، ولاولاد ابن عم والده جعفر بن ابي طالب عليهم السلام، ولهذا العدد من الاصحاب الذين وصفهم الامام الحسين نفسه مادحا فقال: (أصحابي خير الاصحاب) هؤلاء الذين ما وهنوا ولا بدلوا وبقوا ثابتين على ايمانهم في احلك الساعات وفي اشد الظروف محنة.لقد قادت الدولة الاموية انحرافا أدى الى إفساد العقيدة ونقض الشريعة ومسخ الواقع الاسلامي وتحويل الخلافة الالهية الى ملك عضوض، وتهديم صروح المعرفة، كل ذلك أوجد حاجة عقلية وشرعية لنهضة اصلاحية تقوم على تغيير الواقع والعودة بالوعي الجمعي لاصالته، حيث ارادت الدولة الاموية مسخ المجتمع الاسلامي باشاعة الفساد وتحطيم القيم الرسالية بقتل اعاظم شخصياتها، ونشر فكر منحط وقيم سلبية (بتقديم المفضول على الفاضل)، والرضوخ لعبودية الدنيا، عندما يكون قتل الامام الحسين سبط النبي وابن الزهراء عليها السلام مساويا لحكم (الري) عند (يزيد وعمر بن سعد) حتى خاطبهم الامام الحسين عليه السلام قائلا: " إن لم يكن لكم دين فكونوا احرارا في دنياكم ".فالامام الحسين يصر على تحقيق القيم والمفاهيم العليا في البناء الاجتماعي، باعتبار ان الموقف الاسلامي من الحياة موقف حضاري غير مرتد، وهو عندما يطرح شعار الاصلاح، إنما اراد العودة بالمجتمع الى تبني قيما عليا بعد ان اغرقته السياسة الاموية بالمفاهيم المنحطة، اراد الامام الحسين ان يعيد بناء الشخصية الفردية والارتقاء بالروح والنفس، والخروج بها من مستنقعات الضحالة الفكرية والرؤيا المادية التي فرضتها سياسة الدولة. أن يعود الامام الحسين الى سياسية جده الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) وسياسة ابيه امير المؤمنين (عليه السلام) هذا يعني العودة الى واقعية الشريعة الاسلامية وظرورة تحمل الانسان لمسؤولية التغيير باعتباره احد عناصر حركة التاريخ:" إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ". (3)من هنا فان شعار التغيير يجب ان يتبنى معايير الهية لاتخضع لقانون الاحتمالات وبذلك فهي تترك آثارها في العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والانسانية على السواء مما يعني ان يكون التغيير فعلا جوهريا وشموليا في آن ليغطي كل حاجيات الانسان.طبيعة الشعار عند الامام المهدي (عجل الله فرجه):لاشك ان الظلم كالشرك يؤدي الى تفكيك العلاقات بين الانسان والحياة وبينه وبين بقية المكونات الوجودية مما يؤدي الى حدوث فوضى تاريخية وعقلية باعتبار ان الظلم يتخذ موقفا سلبيا من الحياة. وعندما يتخذ المصلح شعار تحقيق العدل فهذا يعني انه يعيد العلاقات الايجابية في الحياة، فالعدل في المفهوم الالهي يعني العودة الى ادراك علاقة الانسان بالله الذي يمثل مطلق العدل.من هنا يتضح ان طبيعة الشعار عند الامام المهدي هي طبيعة الهية فالعدل عند أهل البيت عليهم السلام وعند الشيعة هو الاصل الثاني من اصول الدين: (التوحيد، العدل، النبوة، الامامة والميعاد). (4) فالله وهو العدل يقول:" انا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ". (5)بمعنى ان كل شيء مخلوق بالقدر المناسب للحياة وهذه المفردة نمثل مطلق فلسفة العدل الالهي، ولما كان الموقف الشرعي من العدل موقف الهي، تصبح نهضة الامام المهدي نهضة اصلاحية تحقق مشروع الهيا ولذا فهي تتبنى قيما سماوية، حيث ان العدل هنا لا يخضع للمعايير الانسانية وللتوجهات البشرية، بل هو يمثل مطلق العدل كما اراده الله لتتحقق فكرة خلافة الانسان على الارض:" وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني اعلم ما لاتعلمون ". (6)فتحقيق الخلافة الالهية على الارض يعني ان لا يقع ذلك على جانب من الارض دون جانب آخر، بل المراد منه ان يشمل كل بقاع الارض، وكل الشعوب والامم، ويتحقق لكل المجتمعات في آن واحد، ولم تتحقق هذه الفكرة في عصر اي من الانبياء والرسل (عليهم السلام) منذ التاريخ الاول للبشرية اي منذ هبوط آدم عليه السلام. حيث ان النبوات والرسالات السابقة للاسلام لم يراد لها ان تشمل كل بقاع الارض، واراد الله عزوجل ان يتحقق ذلك في خاتمة الرسالات وفي الجزء الاخير منها لتتمكن كل الشعوب والامم من الحكم في عصورها المختلفة ولتطبق نظرياتها الوضعية، ولتكون هذه العملية حجة على الناس بان لا قانون قادر على تحقيق العدل غير القانون الالهي. وهذا الحكم الالهي في ترك الشعوب والامم تحكم الارض باساليب متباينة انما لكي لا تبقى حجة للمخلوق على الخالق ولكي لا تأتي امة وتقول يوم الدين انه لو ترك لي الحكم لعدلت اي لحققت العدل المطلوب.من هنا نجد أن شعار تحقيق العدل يطرح رؤيا مستقبلية باعتبار انها لم تتحقق سابقا، وهو يمثل التقييم الحضاري للعقيدة الاسلامية، فكل النظريات والمدارس الفكرية والفلسفية التي طرحت مفهوم العدل لم تتمكن من أن تصبح مشروعا مستقبليا للانسانية جمعاء لانها اتصفت بقصور ذاتي كبلها بمعايير بشرية، فالماركسية انتهت، والراسمالية في طريقها للزوال، حيث اعتبرت ان حل الاشكالات انما هو حل سياسي (نهاية الدولة عند ماركس، وسيادة الديمقراطية الليبرالية من مفهوم رأسمالي) وقبلها كل الفلسفات اليونانية لم تحقق تقدما نحو المستقبل، وكذلك الفلسفة الاوربية، وحتى (هيجل) الذي اعتبر فلسفته نهاية التاريخ، لم يحمل منظورا مستقبليا يحقق غائية الحياة، والاسلام هو الفلسفة الوحيدة التي استطاعت ان تقاوم تحولات التاريخ وتستمر في طرح مشروعها الحضاري عبر تحقيق العدل الالهي، حيث ان الفلسفة الاسلامية ترفض ان تلقي نظرة تجزيئية على الحياة، فالعدل قضية كونية شمولية لا تتجزء.إختيار النخبة لمشروع الاصلاح المهدوي:إن شعار تحقيق العدل الالهي الذي سيقوده الامام المهدي (عجل الله فرجه) يستوجب توافر عناصر واقعية تجعل تحقيق الامر ممكنا إمكانا كليا بل مطلقا، ومن هنا يجب ان يكون الاختيار الهيا، فكما اختار الله الامام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام) لتتحقق على يديه فكرة العدل، فان الزمان والمكان هما ايضا اختيار سماوي، ولما كان الامر يمس المجتمع والحياة والوعي الانساني فكان من الواجب عقلا وجود عدة من الاشخاص ممن سيكونون النواة الاولى للنهضة المباركة، والذين سيكون من أمرهم ان يكونوا قادة وحكاما خلالى النهضة وبعد استتباب الامر.من هنا يصبح الاختيار الالهي لهذه النخبة، اختيارا عادلا يحقق تشكيل بنية رصينة تتعامل مع الواقع، ففي حين مثلت غيبة الامام المهدي استيعابا كليا لحركة التاريخ باعتباره عليه السلام كان ومازال شاهدا على العصور وتحولاتها، وهذا يعني وجود تراكم كمي من المعلومات والمعارف التي ستطبقها هذه النخبة، .......................1- البحار، 44/ 329، مقتل الحسين للخوارزمي، 1/188، الفتوح لابن أعثم، 5/21.2- راجع مستدرك الصحيحين، 4/557، وانظر مسند أحمد، 3/36.3- الرعد/11.4- راجع العدل الالهي مرتضى مطهري: 33.5- القمر/49-50.6- البقرة/30.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
https://telegram.me/buratha