جمال البغدادي
تبدو انتخاباتنا، بحدوثها ونجاحها ونتائجها، نقطة مضيئة معقولة في أوضاعٍ قاتمة وغير معقولةٍ في المنطقة العربية. العراقيون يستحقون التحية والامتنان على هذا. حدثت جلسات حوار عقيمة بين الفلسطينيين في القاهرة، آخر همومها وأول ضحاياها القضية الفلسطينية. في سياقها، اتهمت حماس محمود عباس بأنه شكّل حكومة غير وطنية لأنها لا تعبّر عن النسيج الوطني، كأن هذا هو مفهوم حماس. وهنالك (مجاهدون) في الصومال، بعد القراصنة، عملوا باندفاع على قيادة بلدهم وشعبهم إلى الجحيم، بعد أن لم يشفع للحكومة هنالك حتى ما سمّي بتطبيق الشريعة الإسلامية. كما أن هنالك بلداً عربياً ، يجعل من مأساة وفاة طفلٍ من بين الملايين حدثاً كبيراً وشبه رسمي، لأنه حفيد الرئيس أو الرئيس ما بعد القادم، الأمر الذي ينذر بانحدارات إضافية قادمة. لكن انتخاباتنا ترسل برقية أمل لنا، فهي انتخابات أولاً، وتلك مأثرة في ركام من الزيف ـ مع التقدير لانتخابات متفاوتة الحرية في بلاد عربية عددها أقل من أصابع اليد الواحدة ـ الانتخابات المعاصرة تستند إلى مفاهيم الديمقراطية والمواطنة وسيادة القانون، ويتعارض فيها مفهوم الفرد الحر مع عصبية الجماعة المغلقة المسبقة. لكن المراحل الانتقالية تسمح أحياناً بظهور ظاهرة فاتت العصر أو فاتها ، أمام خطر عصبية أحدث في التاريخ والمضمون. ولا ندري إن كانت عوامل عدم الاستقرار المحدودة التي ظهرت وتكررت كافية لتبرير إصرار المحاصصة على التقدم إلى أمام، أم أن الأمر مجرد إحساس بالحق في نصيبٍ من السلطة والقرار. الطائفية مفهوم معروف عالمياً وتاريخياً، يتعامل معه كثير من علماء الأنثروبولوجيا وتاريخ الأعراق والمجتمعات برفق وحنان، خصوصاً بسبب ظاهرة المساواة النسبية بين أبناء الطائفة الواحدة، خارج الفروق في الملكية والامتيازات.
وأيضاً بسبب الطاقة التكافلية والغيرية والقدرة على نيل الحق أو حماية الجماعة، ولو بالعنف المحدود. وفي عالمٍ يعمّه التهديد، يرى أفراد الطائفة فيها درعاً واقياً طبيعياً لا تشوبه الشوائب. والمجتمعات الحديثة لا تخلو من الطوائف أحياناً وبأحجام وتأثيرات متفاوتة، لكن بمقدار أقل بكثير من المساواة مما كانت عليه في السابق، مع مفعول الثقافة والتداخل مع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة. فإضافة إلى الإحساس بالتشكيلات الاجتماعية السياسية الزاحفة، هنالك الإحساس بنقص الحصة من الغنيمة، لا تقتنع الطائفة بإمكانية الوصول إليها في المجتمع المعني أو في إطار الدولة، فتعيد لعصبيتها بعضاً من مجدها، بما يكفي للدفاع عن النفس أو انتزاع ما تراه حقها المشروع. ولن تقصّر في جهدها لتحويل هذه العصبية عندئذٍ إلى إيديولوجيا، تقول فيها إنها تمارس حرية الرأي وأنها مثلها مثل أيّ جماعة سياسية تعتمد على عصبية مذهبية أو اقتصادية أو فكرية. وقد يكون خاطئاً في العمق، لكنه لا يخلو من بعض المنطق. مفهوم الدولة الحديثة يستطيع وقف تمدد القوى التي تختزن العصبية بأشكالها القديمة، وتختزن العنف الكامن أيضاً.
هذا المفهوم يقوم أولاً على قوة الدولة، الموكل إليها وحدها ممارسة العنف لحماية مواطنيها وفرض سيادة القانون والدستور الذي يحدد المواطنة بحقوق وواجبات ضمن علاقة الفرد بالدولة؛ ثم بوطنية الدولة، التي هي (دولة-أمة) لجميع مواطنيها ولمجتمعها المدني، وبكونها نسيجاً متماسكاً ومتجانساً وليس مجموعة من (الرقع) المختلفة الخيوط، لا تصمد أمام أيّ شَدٍّ أو شدة.
https://telegram.me/buratha