بقلم:عادل الجبوري
في مرحلة تحول مثل تلك التي يمر بها العراق حاليا، تلعب عملية التوافقات السياسية بين التيارات والقوى المختلفة في الساحة دورا كبيرا وربما محوريا في اشاعة الامن والهدوء والاستقرار، وحل ومعالجة المشاكل والازمات الاجتماعية والاقتصادية والامنية والسياسية التي هي اما افرازات ومخلفات طبيعية لمرحلة الاستبداد والديكتاتورية، او نتاج لحالة غياب السلطة ووجود الفراغ الاداري والسياسي، او بأعتبارها استحقاق طبيعي لمخاضات تشكل وتبلور الدولة الديمقراطية والنظام السياسي القائم على التداول السلمي للسلطة.وقد تكون أهمية التوافقات السياسية اكبر في بلد يتميز نسيجه الاجتماعي بالتنوع القومي والمذهبي والطائفي والسياسي. وقد يتصور البعض ان التوافقات السياسية في الساحة العراقية غير ممكنة، ويسوق هذا البعض عدة عوامل واسباب لتعزيز ذلك التصور واثبات صحته، منها ان عدد التيارات والاحزاب والحركات والشخصيات السياسية العراقية كبير جدا، بحيث يصعب تصور اتفاق وتوافق كل تلك التيارات والاحزاب والحركات والشخصيات على رؤية او رؤى مشتركة لكم هائل من القضايا التي تتشعب لتبدأ من عملية اقرار الحريات الفردية وتشخيص حدودها وضوابطها، ولتمتد الى صياغة مناهج التربية والتعليم، ودور المؤسسات الدينية في توجيه المجتمع، وحرية المرأة ومشاركتها في العمل السياسي، وموقع ومكانة وسائل الاعلام، لتنتهي عند مسائل أخطر وأكثر اثارة للجدل والسجال حول جملة من المسائل المهمة في الدستور التي تعد موضع نقاش وسجال وجدل يكاد يكون متواصلا ولاينقطع، ومن المحتمل ان تخضع للاستفتاء الشعبي العام في مراحل لاحقة. ومن تلك العوامل والاسباب التي يسوقها هذا البعض، هو ان الطريقة التي تم بها اطاحة نظام صدام من قبل الولايات المتحدة الامريكية وعدد من حلفائها، وافتراض عدم اضطلاع اي من القوى السياسية العراقية وهي في مرحلة المعارضة بأي دور في عملية الاطاحة، سيجعلها تبدو ضعيفة ولاتملك شيئا من زمام المبادرة، مما يدفع كل واحدة منها مرغمة الى البحث عن تحالفات خارجية سواء مع القوة الاساسية القائمة على الارض او مع قوى اخرى ليس لها وجود ظاهري وعلني على الارض، وذلك حتى تضمن مواقعا لها على المسرح وتتجنب ابعادها عن المشهد السياسي العام.ومع ان مثل تلك العوامل والاسباب تحمل بين طياتها وجها من الصحة، الا ان المتابع والقاريء بدقة لمجريات الامور، يدرك لاول وهلة ان النظرة الى الواقع من زواياه المختلفة يمكن ان يصل الى استنتاجات وتصورات مغايرة. ولعل العملية السياسية بمختلف منعطفاتها ومحطاتها تعد شاهدا ودليلا دامغا على خطأ وعدم صحة مثل تلك الفرضيات والقراءات. وفي كتابه الموسوم (الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد) يعرف المفكر ارنت ليبهارت المجتمع التعددي بأنه "المجتمع المجزأ بفعل الانقسامات الدينية أو الأيديولوجية أو اللغوية أو الجهوية أو الثقافية أو العرقية؛ كما أنه المجتمع الذي تنتظم بداخله الأحزاب السياسية، ومجموعات المصالح، ووسائل الإعلام والمدارس، والجمعيات التطوعية، على أساس الانقسامات المميزة له".ويمكن من خلال هذا التعريف وتعاريف اخرى القول بأنه ليس بالضرورة ان يعكس التنوع والتعدد دائما وجود ازمات او مقدمات لازمات من نوع ما، بل ربما كان العكس هو الصحيح، ففي الحالة العراقية يمكن ان يساهم العدد الكبير من التيارات والاحزاب والحركات والشخصيات السياسية في الحؤول دون ظهور اية سلطة ديكتاتورية مهما كانت ايديولوجيتها وايا كان منهجها وطبيعة ارتباطاتها وتحالفاتها مع قوى الخارج، وبالتالي فان ذلك يحول دون اضطهاد اية فئة من فئات المجتمع، وتلقائيا فأن ذلك سيكون مقدمة لصياغة وبلورة مجتمع مدني قوامه دولة المؤسسات لا دولة الاشخاص والاحزاب، ومعياره ليس الشعارات بصرف النظر عن طابعها، وانما المصداقية والاخلاص والحرص الحقيقي على ترجمة الشعارات والاهداف الي واقع عملي يستشعره كل فرد من افراد المجتمع، وهو ينشط في اطار العمل السياسي، وهو يمارس وظيفته، وهو يعبره عن رأيه وفق الصيغ والاساليب المألوفة والمقبولة، واذا كان المراقب يلاحظ ان هناك قدرا غير قليل من الاختلافات والتقاطعات بين القوى والكيانات السياسية في الساحة العراقية، بل واكثر من ذلك اختلافات وتقاطعات في داخل تلك الكيانات والقوى، فأن ذلك في ظل تجربة سياسية ديمقراطية مثل التجربة العراقية قامت على انقاض ارث كبير وطويل من الاستبداد والقهر السياسي امر طبيعي جدا، ويمكن النظر اليه على انه حراك سياسي لابد منه اذا اريد للتجربة الديمقراطية ان تصل الى مرحلة جيدة من النضج والتكامل. وهناك اليوم حيز واسع من البحث والنقاش حول مفهوم الديمقراطية التوافقية، والتوافقات السياسية، وفرص نجاحها في العراق. والديمقراطية التوافقية بحسب كثير من الاطروحات "تفضي الى تقسيم المجتمع التعددي الى عناصر أكثر تجانساً واستقلالية، وهي لسيت نظاما مثاليا، ولكن في المجتمع التعددي يعتبر التعايش الديمقراطي السلمي أفضل بكثير من السلام غير الديمقراطي ومن ديمقراطية غير مستقرة يمزقها التصارع بين المكونات المختلفة". فالطيف السياسي الواسع يمكن ان يؤدي الي خلق معادلات متوازنة، تساهم بدورها في الحؤول دون وقوع البلد-العراق او غيره-فريسة للاختلافات والتقاطعات والتناقضات بين القوى الخارجية، الاقليمية والدولية، هذا ماتؤكد عليه معظم الاطراف السياسية ان لم يكن جميعها، في ذات الوقت فأن القوى الموجودة على الارض لابد ان تجد نفسها ملزمة بمستوي ما على التعامل والتعاطي مع ما هو قائم من معطيات وحقائق بواقعية وعقلانية.وبقدر ما تتحقق توافقات سياسية بدرجة معقولة ومقبولة بقدر ما تنحسر وتتلاشى الكثير من المشاكل والازمات.وقد يكون واضحا ان مشاريع ومبادرات المصالحة والحوار الوطني وخطط فرض القانون، واعطاء العشائر دورا اكبر وتفعيل دور اللجان الشعبية في بعض المناطق ساهم الى حد كبير في تطويق الكثير من البؤر الارهابية في العاصمة بغداد وغيرها من محافظات العراق، وفكك قدر لابأس به من العقد والازمات. والى جانب ذلك فأن تجربة الاعوام الستة الماضية اثبتت ان التوافقات السياسية من شأنها ان تفضي الى حصول مرونة في بلورة الخطوات والمقدمات المطلوبة لاقامة مجتمع متجانس ومنسجم، تختفي وتذوب فيه الاحتقانات والتشنجات، مما يمهد بالتالي الى احتواء نزعات العنف والتطرف، ويمنع اندلاع حروب وصراعات اهلية بين الفئات والطوائف والقوميات والجماعات السياسية المختلفة التي قد يجد البعض منها نفسه مهمشا ومهضوم الحقوق في ظل غياب التوافقات السياسية، ولاشك فان هذا كله وما يرتبط به بشكل او بآخر ممكنا الى حد بعيد اذا صدقت النيات وحسنت السرائر، وتم تقديم العام من المصالح على الخاص منها.وتطبيقات الديمقراطيات التوافقية في مجتمعات متعددة القوميات والاثنيات والعرقيات والاتجاهات السياسية في اوربا وغير اوربا، جديرة بالتأمل والدراسة في اطار السعي المتواصل لترسيخ اسس وركائز النظام السياسي الديمقراطي في العراق، من خلال تصحيح وتعديل المسارات من داخل الاطر الدستورية وليس من خارجها.
https://telegram.me/buratha