( بقلم : المحامي طالب الوحيلي )
توالت جلسات المحكمة الجنائية العليا لمحاكمة الطاغية الدكاتور صدام ،وقد تشكلت بنفس هيئتها ورئاستها من قبل القاضي عبد الله العامري الذي نال اعجاب الكثير من المتابعين حين ادار الجلسات الاولى باسلوب قضائي لايختلف عن التقاليد العراقية السائدة في المحاكم العراقية الاعتيادية ،من ضبط واحكام بكافة اصول المحكمة بما في ذلك تدوين محاضر الجلسات الذي لايتم الا من خلاله ،أي يستمع الى المتحدث ثم يرد لكاتب الضبط مايريد تدوينه ،وتلك طريقة معروفة في مجالس القضاء العراقي ،ومن خلال هذا الاسلوب تمكن من فرض النظام والحد من طغيان المتهمين ومحامي دفاعهم الذين هم اكثر تماديا وتطاولا على الشعب وحقوق المشتكين ،ويسجل لرئيس المحكمة نجاح في صرف المحامين الاجانب والحد من تجاوزاتهم ،فيما يستمر محاموا الدفاع في طرح اسئلة كثيرة على المشتكين اجد معظمها ليست من مصلحة موكليهم ،وكذا الحال في استرسال المتهمين في التحدث عن تفاصيل تؤكد بما لاجدل فيه ارتكابهم لجرائم الابادة الجماعية وضلوعهم بجريمة الانفال ،ولا يغنيهم ادعائهم بان القرى التي دمرت كانت تؤوي معارضين للنظام ،لان تلك القرى ما كانت ساحات قتال او كانت معسكرات للبيشمركة ،كما انها لم تكن على مقربة من جبهات القتال مع ايران ،واذا كان ادعاء مدير الاستخبارات العسكرية بان قرية سركلو كانت معسكرا ايرانيا ،فماذا كان يفعل جيش صدام طيلة تلك الحرب ؟! فقرية سركلو لم تكن بعيدة عن حدود محافظة السليمانية ،وان بيانات صدام كانت تشير الى الانتصارات الباهرة وان صواعقه المواحق كانت تغير كل يوم وتسجل عشرات الطلعات ،لكن الحقيقة ظهرت بانها كانت تغير على مدن وقرى كردستان !
لقد اثارت الرأي العام العراقي تفاصيل جديدة في المرافعات الاخيرة ،كان موقف السيد رئيس المحكمة فيها يعتريه بعض الاخفاق في سيطرته على الجلسات وكانه ينساق في بعض الاحيان الى المتهمين مع شدته اتجاه الشهود والمدعي العام والمدعين ووكلاء الحق الشخصي ،فيما كانت الطامة الكبرى حين وصف احد المشتكين المتهم صدام بالدكتاتور،لكن رئيس المحكمة اعلن من مكانه بان صداما لم يكن دكتاتورا وانما الذين يحيطون به هم الذين صنعوا منه ذلك ،وقبل ذلك كان موقف الادعاء العام من رئيس المحكمة ومطالبته له بالتنحي عن القضية بعد ان وقعت عدة اخفاقات كان الطاغية والمتهمين السبب فيها حيث اتيح لهم المجال الفسيح في اتهام المجنى عليهم بتهم طالما اعدم الملايين بسببها ،فيما يذهل السيد رئيس المحكمة عن الحد من تلك التصرفات بالرغم من تصريح الطاغية بتهديد الادعاء العام وجميع الحضور والشعب برمته بانه اذا غضب فانه يعرف ما سيفعل!!
لقد اخذ الكثير من المراقبين والمحللين على السيد رئيس المحكمة ،عندما اعلن بان صداما ليس دكتاتورا ،وقد دعى الكثير منهم الى عزل القاضي او تنحيه وراح آخر يتهمه تهما جزافا ،ولست في موقف الدفاع عن المحكمة ورئيسها ،ولكن الموضوع برمته كما اعتقد هو سقطة كلام ماكان ينبغي ان تبدر منه مع اقراره في عدة مناسبات بان مايبدر منه يحسب عليه، وقد شعرت بان القاضي كان في موضع لايليق به،امام متهم معلق مصيره بين شفتي وانامل هذا القاضي، القاعدة ان القاضي لايحكم بعلمه الشخصي ،أي مهما توفرت لديه شخصيا من معلومات على قضية ما ،فانه لا يمكن ان يسبب حكمه على هذا العلم الا بعد ان تتوفر لديه الادلة المحايدة ،من ذلك انتدابه للخبراء ،فهو يمكن ان يضع التصور المناسب للشيء محل الخبرة لكنه يلجأ الى خبير قضائي او فني ليدلي بخبرته على وفق تقرير مسبب ،وقد تقع امام القاضي جريمة خارج المحكمة فلا يمكنه الحكم فيها على اساس مشاهدته الشخصية ،وانما يمكن ان يتنحى ليكون شاهد اثبات امام قاض اخر .لذا فلا يعاب على رئيس المحكمة ان يتساءل عن أمور تخص قضية الانفال يحاول فيها استنطاق المتهمين الرئيسيين ،اما قوله بشأن الطاغية صدام بانه ليس بدكتاتور ،فانه ليس في مورد الحكم في هذا الامر ،كما انه يمكن ان يتصرف من زاوية ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته ،وللخصوم ان يثبتوا ذلك كالادعاء العام وشهود الاثبات ووكلاء المدعين بالحق الشخصي ،اما تسميتهم بالإخوان واحتجاج صدام وجماعته على تسمية الشاهد بكلمة (كاكه) ،فان ذلك لا يحمل على شيء سوى دلال صدام وشعوره بالزهو امام هذا الزخم من الجرائم التي ارتكبها نظامه والابقاء عليه معززا مكرما يعامل معاملة العظماء وصناع التأريخ ،وذلك الشعور قد توالد بسبب الشهادات المتأرجحة بين اسئلة المحكمة وترجمة المترجم وبساطة الشهود وعظم المآسي التي وقعت عليهم حيث ان الحق يحتاج الى الدليل الناهض ،وقد ضاعت حقوق الشعب العراقي ومصائر الملايين امام مؤامرات الطاغية وحزبه فما بالك به وهو يتعامل مع المحكمة وهو في موضع الاتهام والإدانة؟!
القضية ليست مختصة بشعبنا الكردي ،بل هي قضية الشعب العراقي وتتعداه الى الانسانية جمعاء ،وان أي إخفاق او خلل يعتريها فإنما يعني ذلك تصدع الحق والعدالة الانسانية ،وما دامت قناعة الجميع بعدم براءة الطاغية فان ذلك لا يكفي حقا او يقر حكما باعدامة الا اذا نجح الادعاء العام في ضخ المزيد من الادلة المادية وقدم وكلاء المدعين بالحق الشخصي شهودهم كافة الأسباب التي تدمغ الطاغية ومحاميه ،فيما يبقى أمامنا جانب مهم لم يلتفت اليه احد ،الا وهو دور المنظمة العالمية لحقوق الإنسان التي أصدرت الكثير من القرارات التي تدين نظام صدام بالجرائم ضد الانسانية وقد أشرت الكثير من التجاوزات على حقوق الإنسان العراقي ،فيما كان لها دور فعال في قضية الأنفال منذ وقوعها وحتى اكتشاف المقابر الجماعية حيث شكلت فرق خاصة لتحليل رفاة الضحايا وتصنيفها علميا بما لايدع مجالا للشك باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد القرى الكردية او الدفن الجماعي للضحايا وهم على قيد الحياة .
ففي عام 1992 أرسلت هيومن رايتس ووتش فريقا من الباحثين إلى شمالي العراق. قام الفريق على مدى عدة أشهر بتحريات وتحقيقات شاملة. قابل أعضاء المنظمة حوالي 350 شخصا ممن نجوا من حملة الأنفال ومن شهود الحملة وقاموا بتحليل للتربة في مناطق استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية. ولأغراض الحفظ والتحليل، سلم لهيومن رايتس ووتش 18 طنا من الوثائق الأمنية الخاصة بالنظام البائد. وعلى أساس البحث الميداني وتحليل الوثائق، خلصت هيومن رايتس ووتش إلى أن الأنفال تشكل جريمة إبادة جماعية. وفي عامي 1994 و1995، حاولت هيومن رايتس ووتش إقناع عدة حكومات مهتمة بحقوق الإنسان برفع دعوى على النظام البائد بموجب أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها أمام محكمة العدل الدولية. وللأسف لم تثمر هذه المبادرة. بناء على ذلك نعتقد بأهمية دخول هذه المنظمة شخصا ثالثا الى جانب المنجى عليهم كونها تمثل حقوق الإنسان في العالم بأسره ،مما يضعها في موقف المشتكي لصالح الإنسانية وهو يتعدى الامر الاعتباري الذي اعتادت عليه الى الإعانة على إثبات الجرائم ضد الإنسانية ..
https://telegram.me/buratha