عادل الجبوري
اشرت الاحداث الدامية التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد يوم الاربعاء الماضي، التاسع عشر من شهر اب-اغسطس الجاري، الى حقيقة اجمالية تتصل بها جملة حقائق تفصيلية، تتمثل هذه الحقيقة الاجمالية في ان استقرارا وتحسنا امنيا واقعيا وحقيقيا لم يتحقق حتى الان، وان عقد ومشكلات واشكاليات الوضع الامني لم تعالج معالجات موضوعية وعملية وعلمية. ولعل "مثل هذا الاستنتاج يبدو للبعض خطيرا الى حد كبير، وهو كذلك بالفعل، وهذا ما ينبغي الاقرار والاعتراف به"، مثلما قال ضابط كبير في احد الاجهزة الامنية.
ولاشك انه بعد كثير من التحولات والمتغيرات "الايجابية" امنيا وسياسيا، وبعد استعادة المؤسسات السياسية والامنية والعسكرية العراقية ثقتها بأدائها ومهنيتها وقدرتها، يعد امرا غريبا وغير مفهوما ان تدخل شاحنات محملة بأطنان من المواد شديدة الانفجار الى مناطق حساسة في قلب العاصمة بغداد، وتخترق عشرات من نقاط التفتيش التابعة لوزارات الداخلية والدفاع وقيادة عمليات بغداد، والتي تستخدم اجهزة السونار للتأكد من سلامة السيارات الداخلة وضمان خلوها من الاسلحة والمواد المتفجرة. وجانب من تلك الغرابة يكمن في ان اجهزة "السونار" المستخدمة تكشف عن العطور ومواد التجميل المستخدمة في صناعتها مواد كيمياوية، بينما لم تكشف عن شاحنة او شاحنات محملة بكميات هائلة من المتفجرات، التي دمرت الجزء الاكبر من وزارتي الخارجية والمالية وعشرات الوحدات السكنية ومئات السيارات وتسببت بقتل وجرح الاف الاشخاص!.
انها فعلا مفارقة، تسببت في جدل وسجال كبيرين خلف الكواليس واتهامات متبادلة بالتقصير بين وزراء الداخلية والدفاع والامن الوطني وعمليات بغداد، وكذلك جهاز المخابرات، وامتدت الاتهامات بالتقصير الى رئيس الوزراء بأعتباره القائد العام للقوات المسلحة. ولعل مؤشرات التراجع الامني او قل عدم التماسك الامني، لاحت بعض بوادرها وملامحها قبل الثلاثين من حزيران-يوينو الماضي ، وهو موعد استكمال انسحاب القوات الاميركية من داخل المدن والقصبات العراقية وفق الاتفاقية المبرمة بين بغداد وواشنطن اواخر العام الماضي، وبعد الثلاثين من حزيران، تحولت تلك المؤشرات الى مصاديق واضحة وجلية الى حد كبير في اكثر من مدينة عراقية، كناحية البطحاء في محافظة ذي قار، وقضاء تلعفر في محافظة نينوى، وقريتي شريخان وخزنة الشيعيتين في نينوى ايضا، وكذلك في قضاء الفلوجة التابع لمحافظة الانبار، وفي ومناطق اخرى، وجاءت احداث "الاربعاء الدامي" لتدق ناقوس الخطر الحقيقي، لانه اذا كانت العمليات الارهابية التي وقعت في المدن والقرى المشار اليها تبعد مئات الكيلومترات عن العاصمة، وعن مركز القياديتين السياسية والعسكرية للبلاد، فأن تفجيرات الاربعاء وقعت على بعد كيلومترات قليلة، وربما امتار عن المنطقة الخضراء، حيث مقرات ومكاتب ادارة الدولة بمختلف مفاصلها، من رئاسة الوزراء الى مجلس النواب الى وزارة الدفاع الى وزارة الامن الوطني الى جهاز المخابرات، وغيرها، ناهيك عن وزارة الخارجية التي كانت الاقرب الى مسرح الحدث، بل كانت هي بحد ذاتها مسرح الحدث.
واذا كانت اعترافات الشخص المسؤول عن تنفيذ تفجيرات الاربعاء الدامي، التي عرضتها قناة العراقية الفضائية الرسمية عصر يوم الاحد الماضي، أي بعد اربعة ايام من حصول التفجيرات، قد اظهرت واثبتت تورط حزب البعث المنحل، جناح محمد يونس الاحمد بها، فأن ذلك من شأنه ان يزيد الامور تعقيدا، ويخلط الاوراق بدرجة اكبر، ويثير جملة تساؤلات عن حقيقة حجم التواجد والاختراق البعثي في داخل مؤسسات الدولة العراقية، وخصوصا الامنية والعسكرية منها.
ففي الوقت الذي لم تنقطع ولم تتوقف التحذيرات من خطر حزب البعث على واقع ومستقبل العملية السياسية في العراق، تلك التحذيرات التي غالبا ما ترد على لسان كبار اصحاب القرار وزعماء الدولة، فأن تقارير مختلفة-ولعل اخرها تقرير لجنة متابعة تنفيذ قانون العدالة والمساءلة المشكلة من قبل مجلس النواب العراقي-تشير الى ارقام مهولة عن اعداد البعثيين المشمولين بقانون اجتثاث البعث ومن بعده قانون العدالة والمساءلة، والذي مازلوا يشغلون مواقع حساسة ومهمة في الوزارات والمؤسسات الامنية، او ممن عادوا الى وظائفهم السابقة بأساليب وطرق ملتوية.
والى جانب ذلك فأن بعض الاجراءات غير السليمة لتفعيل مشروع المصالحة الوطنية اتاح لعدد غير قليل من عناصر حزب البعث المنحل، الدخول مجددا، ان لم يكن في الحياة السياسية، ففي المنظومة الادارية والمؤسساتية للدولة العراقية بمفاصلها المختلفة، حتى بات سياسيون كبار يقولون بصراحة ان حزب البعث متواجد في كل مفاصل الدولة، وان الحديث عن حظره ومنعه امر بعيد كل البعد عن الواقع.
واكثر من ذلك فأن تقارير خاصة تتحدث عن صدور اوامر من جهات عليا قبل اكثر من شهر الى مدير عام السفر والجنسية بأصدار جوازات سفر خاصة لكل من يونس محمد الاحمد وافراد عائلته وعدد من المرتبطين به.ومع انه من الصعب تأكيد صحة مثل تلك المعلومات، فأن مجرد تداولها في بعض وسائل الاعلام يعني ان هناك خيوطا للتواصل بين مؤسسات وجهات وشخصيات رسمية في الدولة من جهة، وعناوين واسماء من حزب البعث المنحل من جهة اخرى، سواء تحت يافطة المصالحة الوطنية، او بفعل ضغوطات خارجية، او كنوع من المجاملات ولاصلاح وتعزيز العلاقات والمصالح المتبادلة مع اطراف خارجية، او كتكتيك معين يراد تحقيق اهداف بعيدة المدى من خلاله.
اذن يمكن القول ان التواجد او الاختراق البعثي للدولة هو عامل ربما يكون رئيسي وراء مايحصل من عمليات ارهابية، وهذا التواجد والاختراق محكوم ومرتبط بجملة عوامل لم تعد خافية ولا بعيدة عن دائرة الرصد والمتابعة والتحليل، وربما تتحمل المؤسسات السياسية والامنية والعسكرية صاحبة القرار والمعنية برسم السياسات المسؤولية الاكبر في هذا الجانب.
والعامل الاخر، تتحمله الولايات المتحدة الاميركية، التي كانت حتى الامس القريب، وربما الى الان تمسك بزمام الكثير من القضايا، ولها قدرة كبيرة في التأثير على مسارات الامور في العراق، وليس العراقيون يتحدثون وانما وسائل الاعلام وبعض الجهات السياسية في الولايات المتحدة نفسها ودول غربية اخرى عن اخطاء كثيرة مقصودة وغير مقصودة ارتكبتها واشنطن ومازالت ترتكبها في العراق، لتنعكس كل اثارها وتبعاتها السلبية على الواقع الامني والسياسي للبلد، كما هو الحال مع اطلاق سراح اعداد كبيرة من المعتقلين من الارهابين المتورطين بتنفيذ عمليات ارهابية في اوقات سابقة من دون محاكمات ولاتنسيق مع الجهات العراقية المعنية، وكذلك فتح قنوات للحوار والتفاوض مع حزب البعث واطراف اخرى مازالت تتبنى خيار العنف والارهاب للوصول الى اهدافها، وعدم المساهمة بصورة ايجابية في حل ومعالجة عقد وازمات، تبدو وكأنها قنابل موقوتة مثلما اشرنا الى ذلك في مقال سابق، وهو ما تشجع عليه وتدعمه بقوة اطراف عربية واقليمية مازالت غير مستعدة للتعاطي بأيجابية مع الواقع السياسي العراقي، وتسعى جاهدة الى تغيير المعادلات القائمة.
والعامل الاخر هنا يتمثل في الفساد الاداري والمالي الذي بلغ مستويات خطيرة ومقلقة بالتزامن مع تنامي ظاهرة الارهاب والعنف الدموي خلال عامي 2005 و2006 ، ولم تفلح وعود الحكومة وجهودها فيما بعد بمواجهة ذلك الفساد والقضاء عليه، بل ولا حتى في خفض معدلاته وتقليص مساحاته. وتشير الكثير من الارقام والمعطيات والحقائق الى ان نسبة غير قليلة من العمليات الارهابية يتم تنفيذها بمساعدة اشخاص منتسبين الى دوائر ومؤسسات حكومية يتقاضون مبالغ مالية لقاء تقديم معلومات او تسهيل دخول عناصر ارهابية او نقل اسلحة ومتفجرات الى الموقع الذي يراد استهدافه، والعمليات الارهابية الاخيرة لم تخرج عن هذا السياق، اذ اشار الشخص المسؤول عن تنفيذها الى دفع الاف الدولارات لاشخاص مقابل نقل الشاحنات المحملة بالمتفجرات من مكان الى اخر.
واغلب الظن ان مراجعة الخطط الامنية التي تطرق اليها وزير الداخلية جواد البولاني في المؤتمر الصحفي المشترك مع نائب رئيس مجلس النواب العراقي الشيخ خالد العطية والوزراء الامنيين، لن تكون مجدية كثيرا، وكذا الحال بالنسبة لاعادة النظر بقرار رفع الحواجز الكونكريتية وفتح الشوارع، وكذلك اتجاه الحكومة لطلب مساعدة عسكرية وامنية اميركية. لن يكون كل ذلك مجديا بالمستوى المطلوب لان هناك خللا في البناء المؤسساتي للاجهزة الامنية والعسكرية، وهناك اختراقات، وهناك اجندات ومشاريع سياسية داخلية وخارجية تتحرك على الارض تحول دون حصول تحسن حقيقي للاوضاع الامنية في العراق، وربما هناك امور واشكاليات اخرى ليست واضحة بما فيه الكفاية على مسرح الاحداث.
https://telegram.me/buratha