عمار البغدادي
هي المرة الاولى بعد (27) عاما .. ادخل فيها بغداد عبر الحدود البرية .. وربما هي المرة الاولى التي اشعر فيها بالهواء يتسرب الى روحي ‘ ويتسلل من بين الجراحات العميقة وهي تتدلى كحبل المشنقة ‘ كنت اتنفس بلا هواء وربما كنت اتنفس بلا رئة !. كان من المفترض ان اهبط في العاصمة عبر مطار بغداد .. لكنني ارتأيت السفر الى العراق عبر الطريق البري لكي ارى تراب الاهل ونخيل الرمادي مرورا بالفلوجة والمقتربات المطلة على العاصمة العباسيين .. لم اكن اصدق انني ادخل العاصمة التي خرجت منها خائفا اترقب عام 1982 بتهمة الانتماء لخلية سرية تابعة لاحد الاحزاب الاسلامية‘ ولم اصدق انني (اهبط) في ساحة اللقاء وارى البيت البغدادي والنخيل التي تتوزع كالفراشات في منازل العاصمة ! .
حين تغترب ولاتِِشرق مدة ربع قرن يتحول وجدانك ساحة كربلائية محشوة بالدموع فالرجال حسينيون والنساء فواطم وانت في هذا المصطرع الاليم تضع قلبك بكمك ولاتلهو ساعتها الا بجرحك الطويل الممتد من اقصى اغترابك الى اقصى اقترابك !. كنت ارتعد من فرحي وافتح صدري للريح واطلق للذاكرة شوطا تتسابق فيه خيول السحرة مع اول اطلالة فجر وانا افتح عيوني على اول صباح في بغداد !. لكن ما هالني وانا افتش عن بقايا احلام وذكريات وكلمات متروكة على قارعة الطريق شريط مصور على جهاز موبايل احدهم سرعان ماتم تسريبه كما تتسرب النيران في الهشيم .
قامة سمراء اصلع الراس ويتوعد الحكومة وينال بسباب قبيح من رئيس الوزراء ويعد الناس بالامن وعودة البعث واعتبار (صدام حسين ) القدوة والمثال النموذج وكلام عن حرب التحرير حتى خلت انني لم ادخل عاصمة العباسيين ولم اخرج من سوريا وانني الان في عصر المماليك ولست في عهد المالكي !. هل يعقل ان اشهد مثل هذا النموذج المروع بعد مرور عامين على الشروع بتنفيذ خطة فرض القانون ووجود (40) الف عسكري امريكي ومعهم عشرات الالاف من الجيش والشرطة والمعلومات الاستخباراتية ؟ . من يصدق ان (عادل المشهداني ) قائد صحوة الفضل يتحدث بهذه (السفالة ) ويتحدى العهد الوطني وحكومة الوحدة الوطنية ويعتدي بالسباب على رئيس الوزراء وحوله اتباع يصفقون ويهتفون بحياة الطاغية ؟ . قد يقول قائل .. انها حالة فردية لايمكن اسقاطها على سياق من الانجازات الامنية والعسكرية التي حققها الجيش العراقي على الارهاب وقوات العدوان ووجود رجل بهذه المواصفات ليس دليلا على غياب الامن . ان الامن الذي تحقق سيبقى مهزوزا وهشا بوجود هذه الذئاب وهي تحوم حول محيط من المدن المنكوبة والابرياء الذين تعبوا من وجود هذة الطفيليات العبثية في الاوساط الشعبية العراقية .
ان الامن ليس غياب المفخخات والهاونات وعمليات الخطف والسلب والاغتصاب وعدم استهداف المدن بالصواريخ وانخفاض نسبة الجثث المجهولة الهوية .. ان الامن هو في وضع نهاية حقيقية لظاهرة عادل المشهداني المفاجئة وتحدي الدولة في عقر دارها .. ان المشكلة هي في عدم وجود ضمانة عراقية وفق خطة عسكرية متقنة تستطيع احكام السيطرة على الشارع من دون ان تسبب ارباكا في الاوضاع الاجتماعية او هلعا في نفوذ الناس حيث تبدو الدولة بهذا التوصيف اقرب الى (العصابة) منها الى العدالة والدولة العادلة القوية .
اتفهم تماما حجم الضغوط التي يتعرض لها قادة البلاد وعلى راسهم القائد العام للقوات المسلحة مايفرض وجود صيغة خارجية هي التي تشرف على المسالة الامنية ولو بمقدار اقل من النصف يساعدها في ذلك جيش وشرطة واجهزة امنية انا اجزم ان ولائها ليس وطنيا بالكامل بل تتوزع على مجموعة من الولاءات الحزبية والطائفية والسياسية وهنالك ضباط في مراكز اساسية في الدولة وفي الجيش والشرطة يهمهم اضعاف الامن وان تتردى الاوضاع وتسوء ويعودو الارهاب فاعلا واساسيا في الشارع . واتفهم تماما ان الفترة الحالية من (ابشع) الفترات على الحياة الوطنية العراقية ‘ حيث الاتهامات بالفساد والاستجوابات على قدم وساق والكل متحفز من اجل تسقيط اكبر عدد ممكن من الوزراء فيما كان الكل في المجلس يطبل قبل ( مداهمات الاستجواب ) بحكومة الوحدة الوطنية وبالرجل الذي فرض الامن !! .
افهم ان الاتفاق الامني بين العراق والولايات المتحدة الامريكية لم يدخل ساحة التنفيذ ولازالت الكثير من مفاصل العمل الامني بيد القوات الامريكية والاكبر من كل هذا .. التداخل في الوظائف الامنية بين الدولة والقوات المتعددة الجنسيات مايدعو كل عاقل الى وضع عشرات الاشارات الحمراء على المسالة الامنية .ان ظاهرة عادل المشهداني ستتكرر في اكثر من مكان مادام البعث العربي يشحن النفوس بالكراهية ويغذي الاتباع بثقافة الحقد الطائفي ويستنفر اصدقائه وكثير من السذج والبسطاء لتعبئة الشارع وقد يستدرج بعض شخصيات الحكومة لاجواء (المصالحة الوطنية ) لمقاصد لها علاقة بستراتيجية مشروعه السياسي المعروف تماما كما تم استدراج الحكومة بظاهره (الصحوات) مع ايماني ان عددا لاباس به من افراد هذه القوات دخل بنوايا حماية العراق من اخطبوط القاعدة ومجرمي الجماعات المسلحة بحسه العراقي وشعوره الوطني وقراره بطرد هذه الكتائب عن ارض العراق .
لكن لابد من وقفة نقرا فيها ثانية ملف الصحوات التي استثمرها البعثيون فدخلوا على الخط واساءوا لها بوصفها مشروع وطني وليس مشروعا طائفيا او بعثيا او شيئا من هذا القبيل !!. اعود الى المشهداني ومشهده المفزع .. لم اتصوره الا في خط الاستواء ‘ يخطب باتباع مقهورين ياكلهم الجوع والعطش والامنيات ‘ ويزمجر بلغة التهديد والوعيد ‘ لكن فات البعث العربي ان يذكر الرفيق عادل المشهداني بضرورة ان يكون مهذبا حين يقف خطيبا في الناس ولايستخدم السباب والشتيمة مقياسا للنظر الى الناس او التعاطي مع الشخصيات السياسية ‘ فلكي تكون مقنعا عليك ان تكون مهذبا والعكس مارايناه في مشهد عادل المشهداني .هذه الحادثة لاينبغي ان تمر بسلام ‘ او ان تمر من ناصية الفضل دون علاج موضوعي له علاقة بعلم الاجتماع بعيدا عن التقارير الامنية ورؤية اجهزة كشف المتفجرات !!. كما ان اعتقال عادل المشهداني لايعني ان ظاهرة المشهداني انتهت .. اعتقد ان الظاهرة بدات بعد ثوان من اعتقال المشهداني !. ان هذا (البعثي) المشبوه لم يكن يخطب في الناس اعتباطا .. ولم يجمعهم لامر ساذج ‘ ولم يسرب الصورة الهاتفية الى الاجهزة الامنية بلاهدف .. ان المشهداني قرا جيدا نموذج طالبان وقد يكون طالبانيا ايام علاقة البعث العربي بطالبان ‘ وعرف ان التعبئة في الاوضاع الملتبسة تضع الناس في سلة الخطاب الهائج وقد تنسيهم المصالح والاولويات الاجتماعية من ماء وكهرباء وهاتف وخبز ومشافي ووسائل نقل ووظائف .. هكذا اراد المشهداني ان يوصل الرسالة .. انها رسالة للدوله من ان الذي حدث في وادي سوات قد يتكرر في بغداد ..
ومن يفرض تطبيق الشريعة في هذا الوادي الباكستاني الذي تعشعش فيه عفاريت طالبان قادر ان يفرض شريعة البعث العربي في الفضل فكلاهما يصدران من نبات واحد ويتعاطيان حشيشة مشتركة .. هي الكراهية العالية لشيئ له علاقة بالحرية والسيادة والانسان وان تكون سيدا على نفسك دون ان يفرض قادة البعث سيدا عليك وهو عبد مؤمور ومرتزق ماجور .
مرة اخرى .. لازال الامن هشأ ولا كيف يفسر القادة الامنيون وجود ظاهرة المشهداني في الحياة العراقية بعد مرور سنتين على الشروع بخطة فرض القانون ؟ . ان هذة الظاهرة ليست فردية ‘ وليست هبة سياسية رعناء او صوت رجل لاعلاقة له بمشروع سياسي او رؤية في الدولة والعودة ثانية لسلطة الاقوياء .. فلا تضعوا انفسكم مكان من استهدفتهم الاية الكريمة (ما اردت ألا الاصلاح ما استطعت ) لان الوزارات الامنية اليوم هي الدولة والناس تعول على فرض الامن مثلما اعطت صوتها وعولت قبل (3) سنوات على قيام حكومة القانون .
https://telegram.me/buratha