( بقلم كوردة أمين )
أثناء إنعقاد الجلسة الثامنة عشر لمحاكمة الدكتاتور صدام وعدد من أعوانه المتهمين بجريمة الدجيل ارتفع صراخ محامي الدفاع المصري عن الدكتاتور وهو يردد بأن موكله صدام كان رئيسا للدولة حينذاك , ويقصد وقت وقوع محاولة الاغتيال ضد الرئيس السابق وما تبعها من اجراءات قاسية بحق أهالي منطقة الدجيل من إعدام ( 148 ) شخصا , إضافة الى تشريد مئات العوائل ونفيهم الى الصحراء وتجريف بساتينهم ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة.
يتضح من ذلك إن محامي الدفاع المصري حاول تبرئة ساحة المتهم صدام مستندا الى أنه كان رئيسا للعراق وبالتالي فأنه كان يتمتع بحصانة دستورية عند ارتكابه مثل هذه الجريمة البشعة والتي تندرج تحت تسمية جرائم الابادة الجماعية وفق (( اتفاقية منع جريمة ابادة الاجناس والمعاقبة عليها لسنة 1948 )) الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي صادقت عليها , ولغاية الاول من كانون الثاني 1991 , أكثر من 101 دولة وبضمنها العراق .والغريب أن يصدر عن محامي الدفاع مثل هذا القول وهو الذي يفترض فيه أن يكون ملما بأبسط قواعد القانون الدولي والاتفاقيات الدولية ! والأغرب من ذلك صمت هيئة المحكمة وعدم الرد على مغالطاته ! علما ان هذا المحامي المصري الجنسية لا يحق له أصلا الترافع والدفاع عن المتهم إلا عن طريق المحامي العراقي وتقديم المشورة له وفقا لقانون المحاماة العراقي وقانون المحكمة الجنائية العراقية المختصة رقم 10 لسنة 2005 , وكان على المحكمة ان لا تمنحه مثل هذه الفرصة. وحسنا فعلت المحكمة المشكلة للنظر في قضية الانفال في عدم السماح للمحامين غير العراقيين بالترافع لعدم توفر الشروط القانونية اللازمة لذلك .فهل يحق لأي حاكم ( رئيس دولة ) أن يقترف ما يشاء من جرائم بحق شعبه من إعتقال وقتل وتشريد وانتهاك للحرمات واغتصاب للأعراض والاموال وادخال البلاد في حروب مدمرة متذرعا بالحصانة الدستورية التي يتمتع بها وبالتالي يعفى من أية مسؤولية أو عقاب ؟بعد نهاية الحرب الكونية الثانية أفاق العالم على حجم المأساة الانسانية التي نتجت عنها , كما ظهرت بشاعة وفضاعة الجرائم التي ارتكبتها ألمانيا النازية بقيامها بإبادة ملايين البشر بسبب إنتمائهم الديني وأصلهم العرقي , فأقرت دول الحلفاء ميثاق محكمة نورمبرغ عام 1945 الذي إعتبر بأن مجرمي الحرب هم الذين يرتكبون جرائم ضد السلم , أو الذين ينتهكون قوانين الحرب , وكذلك الذين يرتكبون جرائم ضد الانسانية حتى وان كانت هذه الجرائم مما لاتتعارض مع قوانين ذلك البلد التي ترتكب فيه .وقد أصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة عام 1946 قرارين بهذا الخصوص أكدت في أولهما مبادئ ميثاق محكمة نورمبرغ , وأكدت في ثانيهما قرارا يتعلق بمنع إبادة الاجناس واعتبرت هذا العمل جريمة تدخل في نطاق القانون الدولي , ومن هنا نشأت (( اتفاقية منع ابادة الاجناس والمعاقبة عليها )) التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 9 ديسمبرمن عام 1948 , ووقعت عليها العديد من الدول , واعتبرت بموجبها ابادة الاجناس جريمة طبقا للقانون الدولي وتتعهد الدول الموقعة على الاتفاقية بمنعها والمعاقبة عليها .وقد عرفت المادة الثانية من الاتفاقية الابادة الجماعية بانها (( ارتكاب أفعال معينة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة أو قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه )) وتشمل الافعال التالية :أ- قتل أعضاء من الجماعة .ب- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة . ج – اخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا .د – فرض تدابير تستهدف الحؤول دون انجاب الأطفال داخل الجماعة .ه- نقل الاطفال من الجماعة عنوة الى جماعة أخرى .من هذا التعريف يتجلى لنا بوضوح بأن واقعة الدجيل تدخل ضمن جريمة الابادة الجماعية حيث كان النظام يقصد من ارتكابها التدمير الكلي او الجزئي ( لجماعة دينية وهم الشيعة ) سواء كان بالحاق الاذى الجسدي والروحي بهم وذلك بالقتل أو الاعدام , واخضاعهم عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرهم كليا أو جزئيا عن طريق نفيهم الى الصحارى القاحلة وحرمانهم من الغذاء والدواء , وتشتيت العوائل وعزل النساء عن الرجال وفصل الصغار عن ذويهم , اضافة الى هدم دورهم وتجريف بساتينهم .وكذلك فأن الجرائم التي ارتكبها صدام ونظامه ضد الكورد ينطبق عليها وصف جريمة الابادة الجماعية المرتكبة بقصد ( التدمير لجماعة قومية أو أثنية ) , كجرائم الانفال وحلبجة والجرائم ضد الكورد الفيليين والبارزانيين وجرائم التعريب في كركوك وخانقين وبقية مدن كوردستان , حيث تتوفر فيها كل الشروط الواردة في الاتفاقية المذكورة اعلاه .كما نصت المادة الثالثة من الاتفاقية على المعاقبة في الحالات التالية : ارتكاب الابادة الجماعية أو التآمر على ارتكابها أو التحريض المباشر والعلني على ارتكابها .وأكدت المادة السابعة من الاتفاقية على أن : لا تعتبر الابادة الجماعية والافعال الاخرى المذكورة في المادة الثالثة جرائم سياسية على صعيد تسليم المجرمين .وبما إن جريمة الابادة الجماعية هي جريمة ضد الانسانية فهي لذلك تعتبر جريمة محكومة بقواعد القانون الدولي وليس القانون الوطني , وهي غير مشمولة بنظام التقادم الزمني الذي تطبقه الدول على الجرائم المرتكبة من قبل مواطنيها والتي تخضع لقواعد القانون الجنائي داخل تلك الدول , أي إن المتورطين بهذا النوع من الجرائم لا تسقط عنهم جرائمهم مهما طال الزمن .إن نظام صدام الدموي سمح لنفسه القيام بالعديد من جرائم الابادة الجماعية كما في الدجيل وكوردستان وضد العرب الشيعة والكورد الفيليين والبارزانيين عن طريق سن قوانين خاصة تجيز له ذلك , واصدار قرارات لما يسمى بمجلس قيادة الثورة تبيح ارتكاب هذه الجرائم , بينما هي في الحقيقة جرائم معاقب عليها بموجب القانون الدولي واتفاقية منع إبادة الاجناس , وتحصن الطاغية بمباديء دستور مؤقت هو دستور عام 1970 لحماية نفسه واعوانه من أية مساءلة قانونية , حيث نصت المادة الأربعون من هذا الدستورعلى ما يلي :(( يتمتع رئيس مجلس قيادة الثورة ونائبه والأعضاء بحصانة تامة ولا يجوز اتخاذ أي إجراء بحق أي منهم إلا باذن مسبق من المجلس )) .ولكن المادة الرابعة من اتفاقية منع جريمة ابادة الاجناس والمعاقبة عليها لسنة 1948 تؤكد بكل وضوح على عدم إعفاء الحكام والموظفين العامين الذين يرتكبون جرائم الابادة الجماعية من العقوبة في حالة التذرع بالحصانة الدستورية أو أية حصانة أخرى مهما كانت , حيث جاء فيها :يعاقب مرتكبو الابادة الجماعية أو أي من الافعال الاخرى المذكورة في المادة الثالثة سواء كانوا حكاما دستوريين أو موظفين عامين أو افراد ا .إن الطاغية صدام حسين وأعوانه بارتكابهم هذه الجرائم الشنيعة بحق الكورد والشيعة وكل العراقيين , قد خرقوا وبشكل فاضح اتفاقية دولية تعتبر من أهم الوثائق الدولية التي تخص السلم والأمن العالميين , ضاربين عرض الحائط توقيع العراق على هذه الاتفاقية والتزامه ببنودها , وخارقين نص المادة الخامسة منها , والتي جاء فيها :(( يتعهد الاطراف المتعاقدون بأن يتخذوا , كل طبقا لدستوره , التدابير التشريعية اللازمة لضمان تنفيذ أحكام هذه الاتفاقية , وعلى وجه الخصوص النص على عقوبات جنائية ناجعة تنزل بمرتكبي الابادة الجماعية أو أي من الافعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة )) . وبعد ... هل سينجح المحامي المصري والقطري والسعودي والاردني والعراقي وغيرهم من محامي الدكتاتور وأعوانه بكل ما أوتوا من قدرة على الصراخ والتهريج واثارة الشغب داخل المحكمة ومحاولة اثارة واستمالة الرأي العام العربي خارجها بخطبهم السياسية البائسة , من إنقاذ رقاب موكليهم من عدالة القضاء والسماء , سواء في قضية الدجيل أو الانفال أو غزو الكويت , أو القضايا الأخرى التي تنتظر دورها بصبر !؟ . ملاحظة : أعيد نشر هذه المقالة التي سبق لي نشرها بنفس العنوان بعد اضافة بعض التعديلات عليها وذلك بمناسبة بدء وقائع محاكمة المتهمين بجرئم الانفال , وتاكيدا لرأينا الذي جاء في المقالة في اعتبار جريمة الدجيل من جرائم الابادة الجماعية بخلاف ما يرى البعض .
https://telegram.me/buratha