( بقلم قاسم محمد الكفائي )
في الباكستان ولأكثر من ستة أعوام قضيتُها هناك ما كان لي مَقرّا ثابتا فيها ، تغيير مَحال السكن أو السفر الدائم . فخيرُ مكان دافىء وجدته بعيدا عن مسكني لأكثر من 300 كم لأقضي فيه أوقاتي بأمان وراحة بال نسبيين في مدينة دينية صغيرة نائية بعيدة عن صخب الباكستان السياسي أو الطائفي . كنتُ أقضيها إما في المكتبة العامة لتك الجماعة ، أو مع وجهاءها الدينيين والمثقفين .
فكنتُ أهيّىء أسباب المكوث هناك بحيث يطول بي المقام لأكثر من اسبوعين أو ثلاثة وحتى الشهر ، ثم أعود الى إسلام آباد لأعود مرة أخرى اليها وهكذا لسنين معدودة . تُعتبر هذه المدينة الصغيرة أوهامُ عقيدة منحرفة كما يصفها عامة المسلمين ، أما أنا فأعتبرها واحة سلام كما رأيتها ، وواحة أعتدال ، وسلوك لطيف عند أهلها ، ومجمل الوصف أن الحياة في تلك المدينة مُبَرمَجة ، وأهلها ينعمون ببركات أئمتِهم . الهدوء الذي فيها يبعد الضيف عن كل الأنزعاجات الباكستانية – وعلى المرء أن يكون حذر أينما يحط رِحاله . والطريف أن كل الذين ينعتون أهلها بالكفر هم عتات وحشاشة ومارقين ودجالين ولصوص ، أو من الذين يطلبون الشهادة بتفجير أنفسهم في زحمة المساجد العامرة بالمصلين لأسباب طائفية.
هذه المدينة أشبه أن تكون عالما صغيرا وجميلا وسْط عالم كبير قذرٍ ومتناقض وخطيرٍ . هذا الوصف رَسَمتُهُ بحياديّة وعلى ضوء مفهوم لكم دينكم ولي دين ، ولا إكراه في الدين . أما أن الغي الأنسان لأنه يختلف معي بالرأي أو المذهب والعقيدة فهذا باطل بحكم الترابط الأنساني والأخلاقي ما قبل الولوج بالفلسفة وشؤون البحث العام . علما أني ما كنت أعتقد بما يطرحونه ولا أتحمله لكن قهر الظروف تدفعني عليهم . ولما وصلتُ كندا التقيت بهم قليلا وانفصلت ، لكن فضلهم عليّ وعطائهم الأخلاقي لن ولم أنسَهُ حتى يفعل الله ما يشاء . كنتُ أترقّب قرب موعد سفري الى كندا ، وكنتُ أفكر بجد بتهيأة التدابير الكفيلة بخروجي سالما من الباكستان . بينما أنا كذلك وردني نبأ يقضي بحضوري أمام صديق وجيه في تلك المدينة . سافرتُ اليها على الفور والتقيتُ هناك بادىء الأمر صديقا آخر ليخبرني عن وصول رسالة الى مكتب ( الحركة ) عليها أسم وشعار وهواتف وفاكسات رسمية وحقيقية موجهة اليّ شخصيا وصادرة من السفارة العراقية في أسلام آباد ، بتوقيع الملحق الثقافي وبأسمِه الصريح تدعوني ببذل المزيد من الجهود في مواكبة سير أعمال الحركة ( الجماعة الدينية في تلك المدينة موضوعة البحث ) ، وكشف أسرارها مع إخبار الملحقية فورا بالمستجدات .. والى آخره .
الرسالة كانت لطيفة من حيث العمل الفني ، مثلا المكتب المركزي العام الذي مقره الهند هو الذي طلب مني ذلك التحرك ومواصلته لتبلغني به السفارة في الباكستان ، لكن آلية كشفي على أني جاسوس أعمل للسفارة العراقية ( من خلال طريقة وصول الرسالة الى هذه الحركة ) كانت متعثرة ويستوجب الوقوف عندها وتدعو للنقاش مع أني درستها مع نخبة منهم وأظهرتُ لهم أخطاء فنية فيها غامضة وتعجبوا بملاحظاتي . سلمني أحدهم الرسالة وكان مبتسما وقال : ليس هذا أنت . ولم يتكلم كثيرا سوى أنه سلمني النسخة الأصلية وأنا محتفظ بها الى اليوم . التقيت الرجل الوجيه الذي طلب حضوري فما ظهر منه غير النصيحة بالأنتباه والحكمة وقال : زادتنا هذه الرسالة تعلقا بك يا أخي قاسم .
هنا أعود الى الوصف الذي سجلته عن هذه الجماعة وأقول لو أن الأمر وقع في المعسكر الآخر من المجتمع الباكستاني فسوف تجدني عندهم مربوط اليدين الى الخلف والى جانبي شيخٌ طاعن في السن جالسا يقرأ القرآن كشاهد على أني أستحق القتل لِما أقومُ به من أعمال تجسسية ضد جماعتهم ، ولما ينتهي الشيخ من قرائته الغير مفهومة لغويا يقوم الذبّاح ليحزّ رقبتي ، أو مَن يُطلق علىّ الرصاص . المهم في الأمر كنتُ أتوقع أكثرَ من هذا ، وكان لي علم ضئيل ومشوّه بهذه الرسالة قبل صدورها لكنني لا أعرف التفاصيل … فلما ظهرت عرفتُ أن الذي قام بتدبيرها وبالتنسيق مع موظف في السفارة الصدامية هو شاب من أصول عراقية وصل الباكستان حديثا مطرودا من الكويت وهو من الجماعة الذين يسمونهم ( بدون ) .
أخذ يتردد على السفارة لأشهر بحجة ( مشاكل جواز سفر وأقامة ) وما شاكل هذه المعاذير فنسّقوا معه ودعموه يرافقه ويدعمه كذلك أحدُ اللاجئين العراقيين في مدينة راولبندي . كان هذا هو العراقي الكويتي البدون ( معن الأسدي ) . هكذا عرفتُ إسمَه في ظرف غير مُصدَّق وغير محسوب لديّ ، وكلما يراني يتهرّب ويحاول التمويه ، ( دَرْبْ الجَلِب عَلْ الكَصاب ) .
قاسم محمد الكفائي
كاتب عراقي – كندا
https://telegram.me/buratha