( بقلم قاسم محمد الكفائي )
البغدادي كان يعمل في الجيش برتبة رائد وطبيب متخصص في الأسنان . من سكنة بغداد – الجادرية ( حسب أقواله كما أتذكر ) . كان ذا خلق ، وثقافة ، ووعي خليط بأصراره في الحديث لتثبيت المصداقية في الأفكار التي يبحثها مع الطرف الآخر ، لكنه رجل سليم ولا يليق به الحال الذي عاشه في تلك الحقبة لعالم مجهول ، وعالم حرمان في دولة الباكستان . هاجرالعراق بعد إستعادة الكويت من سيطرة الجيش العراقي ، وقيام الأنتفاضة الجماهيرية في عموم البلاد بوجه الطاغية صدام حسين . وللأمانة فالرجل لم يكن ثوريا مثلما كان يخشى عواقب الألتحاق ببغداد تنفيذا لأوامر صدام الصادرة لكافة الضباط العراقيين وعلى اختلافهم للألتحاق ببغداد العاصمة ما بعد سقوط أكثر محافظات القطر بيد الثوار . بحكم موقعه الخدمي كان يعمل خارج بغداد ، وكان هناك سبب لا أتذكره حال دون تنفيذه لأمر الرئيس . وبعد أيام قرّر الخروج من العراق الى أيران الذي لم ينل منه ما كان يصبو له ، فقرر الخروج منه الى الباكستان . تعرفت عليه أمام مكتب الأمم المتحدة في إسلام آباد عندما خرجت منه وكان البغدادي يراجع المكتب( من الشباك الخارجي ) . ما كان مكتب شؤون اللاجئين يتعامل معه بصدق أو حسن نيّة لأسباب لا أفهمها سوى أني أخمن أن الرجل فضولي في الحديث ولا يتورع في عرض بضاعته السياسية بكل صدق وفي أي محفل ، أيضا كانت إفادته متناقضة عند التحقيق مما سبب له شكوكا ومتاهات .هذا الطرح ليست دقيقا يتناسب وحجم الكارثة التي ألمّت به وسنوردها .البغدادي تعلّق بي كثيرا بدوافع هو فهمها بشخصيتي كما كان يشير الى ذلك دائما ، وكان يطرح علىّ أمور تتعلق بسلامته فكنت أصحح له تصرفاته وأرافقه في كثير من الأوقات ، ونسهر معا لطرد وحشة الوضع البائس . كنتُ التقي دائما في المكتبة البريطانية في سوق ( ميلودي ) في إسلام آباد وكان يعرف الأمكنة التي أرتادُها ، وذاتَ نهارٍ جائني الى المكتبة مسرعا وطلب مني الخروج لأمر هام . بدأ الحديث معي بعبارة ( عيني أبو محمد بس إسمعني ولا تصير عصبي ) إنتبهت له فقال . بالأمس في سوق الجمعة ( جمعة بازار ) صادفت شخص يعمل موظف في السفارة العراقية إسمه خالد وهو جيراننا في بغداد وما بيننا غير الحائط . بعد السلام الجميل والتحية الحارة واطلاعه على حقيقة أحوالي طلب مني زيارته في السفارة فأوعدته خيرا . بينما هو يتكلم كنتُ أصغي جيدا لطرحه الموصوف بالغباء في الجانب الأمني والحماية والتعامل مع مثل خالد كعضو في شبكة إستخبارية ….. فلما انتهى من حديثه لاحظ علىّ علامات الغضب والأحتقان بحيث كاد الدم يخر من أنفي . ولما أحسّ باحتقاني أراد أن يخفف علىّ وطأة المصيبة فقال …( أبو محمد تره خلودي خوش ولد، وهو جيرانّه ) . عندها انفجرت عليه وفاح غضبي وما كان يفهم مني غير الصراخ عليه . ولكن عالجتُ الموقف بعد أستراحة فدخلت معه الحديث من أوسع أبواب صدام وعصاباته المنتشرة في بقاع العالم . حدثته كثيرا عن خلودي وصدام والسفارة والمخابرات ، وعنه كضابط في الجيش . وفي آخر ذلك النهار العاصف كانت آخرُ جملتين لي معه :
*لا تذهب الى خلودي أوتمشي حتى في شارع السفارة لا في اليقظة ولا في المنام .
* والله لو خيرني صدام إما العودة الى العراق أو يبعث إليَّ رؤوس أولادي الثمانية بواسطة البريد لخيّرتُ الشق الثاني لا جُبنا أو خوفا وإنما حاجة في نفسي لأِقضيها.
إفترقنا بعد إتفاق محكم بعدم التفكير بمثل هذه الخزعبلات . كنتُ مطمأنا منه لكن الحظ لن يحالف الأنسان الذي يرى التنور يفور ويرمي نفسه فيه . في لقاء آخر بعد يومين أو أكثر التقاني أحمد في المكتبة وخرجنا منها كذلك عندها فاجئني بخبر الذهاب الى السفارة والتقى صديقه وجاره في العراق ( خالد ) . في تلك اللحظات
واجهت الخبر بشيىء من البرود بناء على فهمي العميق بشخصية هذا الرجل ، وأحواله بكل تفاصيلها . أحمد البغدادي – أبو محمد – الذي يراه ولا يعرفه يشك فيه أنه قام بارتكاب جريمة لتوِّه كونه مضطرب الأعصاب والدم يكاد يخرج من عينيه لأرتباكه وحزنه العميق . كان يشكو حرقة شوقه على أمه وزوجته وولده محمد . لا يستطيع أن يفارق بغداد كما فارقها الكثيرون من قبله ، فكان خاوي العزم ، مرهف المشاعر ، لا يستقر عند حلّ خارج مسكنه وبغداد وحضن أمه وزوجته . وأبو محمد ما كان مرتبطا بأية جهة حزبية أو رسمية غير عائلته ووطنه . لم يتجاوز الثلاثة أيام على دخولة بناية سفارة صدام ذهب بعدها الى مكتب الأمم المتحدة للمراجعة وبينما هو أمام الشباك مسكه ضابط الشرطة الباكستاني من كتفه وقال له ، تعال معي ، كيف تذهب الى السفارة بالأمس واليوم تراجع هنا ، أريد أن أعرفك من أنت """ . الذي حدث معه سبق وإن طرحته عليه مسبقا وبالضبط وبما أنه الرجل المهذّب أتوقع منه وهو في السجن أن يتذكّر نصائحي وتوقعاتي وقد يخرّ مغميّا عليه والى الأبد . كان لقاء خالد له مفبركا ، وهناك اتفاق مع المخابرات الباكستانية لتمرير خطة طرده من البلاد وترحيله الى العراق ، مع مباركة مكتب الأمم المتحدة لها . لقد كان دور المكتب خسيسا معه ، وكان الموظف المختص يقاطعه في كل أقواله…لا نثق بك . كنتُ في حينها على أبواب مغادرة الباكستان والسفر الى كندا ، لكنني سمعتُ أخبارا عنه أنه في سجن كبير من سجون مدينة راولبندي وقد يطلب العودة الى العراق ( بترتيب من خالد ) . الذي دفعني للكتابة عنه هو عدم ثقتي به بالصمود والتحدي لكوارث الشوق والغربة ومصاعب الفقر والعناء والسجن في الباكستان . لهذا كان على استعداد للعودة الى العراق ليلقى جزائه هناك . أفضح قصته على هذا المنبر علّ أحدا من أهله وذويه وأصدقائه أن يعرف ملامحا عن نهايته التي كان قد رسمها وصنّعها جاره ( خالد ) مباركة وضغوطات مكتب الأمم المتحدة عليه . لا يفوتني أن أدعو الله سبحانه أن لا يسلط عليه من لا يرحمه وهو الحافظ وهو المستعان .
قاسم محمد الكفائي
كاتب عراقي – كندا
https://telegram.me/buratha