المقالات

النّوم في معتقلات صدام حسين..من الزمن الجميل


 

محمد صادق الهاشمي||

 

يبدو أنّ الجلّادين في عهد صدام حسين قد درسوا جيّداً الآثار السّيئة لعدم النّوم ، ففي غرفةٍ صغيرةٍ - لا تتجاوزُ الأمتارَ - متعفّنةٍ، لا شيءَ تحتنا إلّا أرض الغرفة الرّطبة، ولايوجد فيها أيُّ منفذٍ، ولاشبابك إلّا باباً حديديّاً مؤصداً ، ومن بين مساماته فواصل يصلنا شيءٌ من الهواء لا يكفينا للتّنفّس، ومن ضمن الزّنزانة هذه دورةُ مياهٍ لا منافذ لها، ويُفتح بابُها على المعتقلين، ونحنُ غارقون في بحر التّعرّق، فالعرقُ يسيلُ منّا صيفاً وشتاءً، وعليك أنْ تتصوّر رائحةَ تلك الزّنزانةِ مع هذه الأعداد من المعتقلين وتعفنها وكثيرٌ منّا كانوا جرحى قد أخذتْ سياطُ الجلّادين في أجسادِهم أخاديدَ ، وجروحُهم تنزفُ دماً وقيحاً، والخوفُ محيطٌ بنا يهددُنا، ننتظرُ الحكمَ بالإعدم «شنقا حتّى الموت» بين لحظةٍ وضُحاها.

وفي هذا المحجرِ - «الزّنزانة» - الصّغير ينامُ ثلاثون واكثر وأقلّ، أو أكثر - حسب ظروف الإعدام فقد يأخذون منّا لمقاصل الإعدام عدداً فيقلّ عددُنا، وقد يضيفون لأعدادنا عدداً – وهكذا.

كيف يمكن أنْ ينامَ هذا العددُ في هذه الزّنزانة العارية من كلّ فراش، أرضُها حجريّةٌ صخريّةٌ قاسيةٌ متّسخةٌ، وهل سالتّ نفسَك: كيف يستوعبُ هذا المكانُ كلَّ هذا العددِ، وفي هذا الحرِّ الشّديدِ؟، نعم هو حقيقةٌ  قد لا تصدّقها

لقد ابتكرنا -  المعتقلين - للنّوم الذي لا غنى لنا عنه ، طرقاً

اولا / أنّ قسماً منّا ينامُ، ويبقى قسمٌ أخر واقفاً بين الصّفوف إلى منتصف اللّيل، وهكذا،  نتبادل الأدوار، وفي بعض الأحيان بسبب الإرهاق قد يغطّ الكلّ في نومٍ عميقٍ، فلا ينهضون ليبادلوا الوجبة المنتظِرة. ولا أنسى روح الأخوّة بيننا، فكان من حنان الأخوّة أنّ الباقين واقفين قيد الانتظار يبقون يحرّكون ثيابهم، لعلّهم يخففون شيئاً من حرّ الزّنزانة القاتل عن إخوانهم النّائمين، ((يهفّون)) علينا لعلّنا نسعدُ بنسمةِ هواءٍ

ثانيا / أنّ البعض منّا ينام جالساً في دورة المياه  حسب الدّور،  وحسب التّضحية التّي يتبرّع بها المعتقلون بأمكنتهم لبعض إخوانهم المرضى أو الجرحى

ثالثا / في النّهار ينام الجميعُ جلوساً « القرفصاء»، ويُلقي الله تعالى علينا ما ألقى على البدريين {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا}، وهذا النّوم الأمنة من أسرار لطف الله بنا

ولا يفوتني هنا أنْ أقف وقفة إجلالٍ لأسجّل فيها ذكرى الأستاذ  الكبير «عبد العظيم» من أهالي النّاصرية، وقد قال لي يومياً :« إنّه يعمل قاضياً في محافظة السّماوة»،  كان جريحاً جروحاً بالغةً من شدّة التّعذيب الذي وقع عليه في رجليه ويديه، وقد كسروا أضلاعه، فكيف يمكن لهذا الرّجل المريض أنْ ينام جالساً، وهو لا يتمكّن من النّوم حتّى مستلقياً؟

ازداد تورّما بمرور أيّامٍ قلائل، ثمّ تعفّنت وتقيحت كلُّ جراحاته، لم  يعدْ ممكناً أنْ يبقى في حاله هذه بلا علاج، فتوسّلنا إلى السّجان «كاظم» ليرسلوه إلى طبيبٍ المعتقل، أو يعطونا ضماداً ومطهّرات لجروحه، أو أيٍّ من هذا القبيل ، ولكنْ دون جدوى، فرجعنا نطرقُ باب الزّنزانة، فطلّ علينا «كاظم» متجهّماً قائلاً: «هو شبيه؟» ، فذكرنا له ما به

وبعد ساعاتٍ جاءَ ليقول

 أخرجوه، فأخرجه السّجانون وهو على هذا الحال يحملونه بسريرٍ طالما حملوا بها الموتى منّا، خرج الرّجل ، وفقدنا خبرَهُ ، ولا نعلمُ إلى اليوم هل هو حيّ أم شهيد قد نام نومة الخلود الأبديّ، وتخلّص من نوم الزّنزانة.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك