المقالات

مات كاظم تحت سياط الجلّادين..!


 

محمّد صادق الهاشميّ ||

 

إنّ المعتقلات التي عشناها كانت مصممةً بعنايةٍ أمنيةٍ فائقةٍ ، تجعل الإنسان يعاني من ضغوط نفسية حادّة وخوف وقلق قبل أنْ يعرض عليه جريمته التي سيق بموجبها إلى المعتقل وفق نظر البعثيين ، فالزّنزانات تخلو من كلّ وسيلةٍ صحّيةٍ، بينما تجد غرف التّحقيق مزوّدةً بأحدث وأرقى ما وصلت إليه آلات التّعذيب.

لقد مارس النظام البعثي مع المعتقلين أساليب تعذيبٍ وحشية ، تصل إلى أكثر من «50» نوعاً معروفا عندنا ، أذكر منها شيئا خشية الإطالة : ماكنات فرم أجساد المعتقلين وهم أحياء ، أو فرمهم بعد موتهم تحت سياط الجلّادين ، ثمّ رمي لحومِهم المفرومةِ لأسماكٍ أعدّتْ لهذا الغرض. ومن بين أساليب التعذيب استعمال الكاويات الكهربائية ، والصّوندات المطاطية ، وخراطيم المياه ، والكيّ أو الحرق بالسّجائر في مناطق العورة الحسّاسة  ، أو أدخال الخازوق والقناني في مؤخّرة الضّحية ، أو نفخ بطن المعتقل إلى حدّ الانفجار. وسردُ طرقِ التعذيب يطول المقام بها ، ومَن أراد المزيد فليشاهد جرائم الدّواعش ، فإنّ القوم أبناء القوم ، وربّما أخصص لها حلقةً مستقلّةً إنْ وفّقني الله لذلك.

في هذه الحلقة أريد أنْ أقفَ وقفةَ إجلالٍ وإكبار وإعظام أمام شخصية أخي ورفيق دربي ومن عاش معي ردحاً في المعتقل ، ومات تحت سياطهم موتاً ، إنّه الشّهيد «كاظم» من أبناء «العمارة – الكحلاء».

إنّ ذاكرتي لايمكنها استعادة كلّ شريط الموت ، ومدن الخراب ، وخصوصا بعد أنْ مرّت علينا هذه السّنون المتطاولة من خروجنا من السّجن تقدّر بخمسة وعشرين سنة ، وسعة المشاهد التي مرّت بنا ، وكثرة الشّهداء ، وأعداد الطّوابير التي ينتظرها الموت ، إلّا أنّ هنا  مشهداً لبشاعته حُفر في ذاكرتي فلا أكاد أنساه ،  إنّه منظر الشّهيد كاظم ،  وهو يتلوّى تحت سياطهم ، فقد ضربوه على رجليه التي أصيبت بمرض «الكونكرينا» ، بل على كلّ جسده حتّى وهو ينازع الموت ، صارخا فيهم بلهجته العراقية العمارية : «ولكم كافي أريد أموت ، فكّوا رجلي ، ما عدكم ذرّة رحمة» ، فيجتمعون عيه ويزيدونه ضرباً .

 لطول مكثي في المعتقل عرفت أسماء الجلّادين الذين اجتمعوا عليه : «ناطق ، طارق ، حمزة ، حازم ، عدنان» ينادون عليه وهو في حالة ٍ نزع الموت ،  وبكلّ أعصاب باردة : «ولك كويظم تخاف تموت... عميل ... خميني ... أخو الكذا ... أختك كذا...» ، ويرددون كلمة : «نخلي الكلاب تاكلكم» ، وبقوا على هذا الحال حتّى سكتت أنفاسه ، فتنادوا : مات كويظم ،فسحلوه من ملابسه إلى آخر الممررات ، وهكذا قضى شهيدا راحلاً إلى ربّ  يأخذ بحقّه.

هذا الشّهيد كان قد قال لي حينما تعارفنا أننا أبناء العمارة : «إنْ قَسَمَ اللهُ لكَ أنْ تخرج فأرجوك أن توصل خبري لأهلي ، أنا أخوي فلان وفلان عرفت منهم شقيقَهُ الأستاذ «يحي» الذي كان يدرّسني مادّة اللّغة العربية في متوسطة ناحية السّلام .

وشاءت الأقدار وأطلق سراحي بعد حرب الخليج عام 1991 ، فالتقيت في يوم من الأيام بأخيه الأستاذ «يحي» ، في قارعة الطريق ، فقلت له بعد أنْ عرّفته نفسي ، ويبدو أنّ الرّجل بعد هذا العمر ما عاد يتذكّر طلابه ، وكان نظام البعث لا زال قائماً ،وكان يحذر من صديق له كان يقف إلى جنبه .

 قلت له : عندي إليك وصيّة مختصرة ربّما لا نلتقي بعدها .

جذبني بقوّة  وأخذني جانباً بعيدا من مسمع صديقه .

قال ما الخبر ، وأيّ وصية تتكلّم أنت عنها ؟.

قلت له : أنت الأستاذ «يحي» ، وأخوك «كاظم».

تلعثم وتردد ، وقال : أي نعم ، ماذا تريد منه؟ ، أتعرفه ؟ أتعرف عنه شيئاً ؟ ما خبره؟ أين التقيته؟.

قلت : كان معتقلاً معي ؟

سألني : أُطلق سراحك ؟

قلت : نعم .

قال : وأين كاظم ؟ ولِمَ لم يطلق سراحه معكم ؟ انطلق يسالُ بإلحاحٍ عاجلٍ ودمعٍ مَطّار عن أخيه وشقيقه الذي فارقه عمراً ، وتجمّد الرّجل في مكانه حين أخبرته بشهادة أخيه. 

أشعر أنّ أستاذي «يحي» قد اهتزّ كلّ جسده ، بكي بصمتٍ بدمع منهمرٍ وهو يجمع شفتيه  ،  والخوف يلاحقه من أن يراه أحدٌ.

لقد رأيته كالمذبوح . ودّعني وانصرف إلى صديقه وقد تمالك نفسه ،، وفارقني وتابعته بنظراتي ، وأنا أنظر أستاذي يحي هذا وهو يتلوّى مهيض الجناح ، كاتماً ألمه.

 استغرب صديقه حينما عاد الأستاذ «يحي» إليه بدموع حبيسة ، ممنوعة الظّهور في زمن البعث  ، أخذ صديقه ينظر إلي كثيراً ، فلذتُ في صفوف النّاس في سوق العمارة الكبير خوفاً من أنْ يكون الرّجلُ مخبراً.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك