المقالات

المقابرُ الجّماعيّة..من ذكريات الزمن الجميل!!


 

محمّد صادق الهاشميّ ||

 

كلّما قاربَتْ خطواتي شارع النّضال في بغداد،تذكّرتُ الزمن الدمويّ الجميل على أولاد الخنى..

 هنا مديريّة الأمن العامة فيها يموتُ النّاس وتنعدمُ القيم،ويتسيّد البعثيّ ويتعطّلُ الشَّرف والإنسانيّة.هنا صدّام وكلّ قوارضهِ ونفاياتهِ، هنا الدمُ والألمُ والمِحَنُ والهَتكُ،هنا العذابُ والموتُ.

 أروي للتأريخ حلول الشّهر الأوّل من شهر رمضان عليّ وأنا وإخوتي السّجناء في زنزانات المعتقل الصّغيرة التي تُقدَّر بنحر ثلاثة أمتارٍ في ثلاثةٍ في مبنى الأمن العامة، ومن ضمنها دورة المياه التي لا منفذُ لها إلّا إلينا، تزكمُ أُنوفنا برائحتها ليلَ نهار. وعددُنا في كلّ زنزانة يتراوح ثلاثين سجيناً، وأحيانا يخفُّ العددُ بسبب أنّهم يعدمون بعضنا، أو يُساقون إلى المجهول،  فنصبحُ عشرين أو أقلّ أو أكثر بقليل.

نومُنا من جلوسٍ؛ لأنّ المكان لا يستوعبُ أنْ ننام مضطجعين، وصادف شهر رمضان المبارك أنّه في صيف العراق اللّاهب والقاسي بحرارته،ولا شيء من الهواء إلّا كُوّة صغيرة جدّاً،وكُلّنا صائمون، والسّياط في أثناء التحقيق تلهب ظهورنا، والجوع يحزّ أحشاءنا، والخوف محيطٌ بنا من كلّ جانب، تُرسَم على وجوهنا صور المأساة، ونحن نسمع من مذياع الحارس: بالروح بالدم نفديك ياصدام!!صدام وحياتك سالمة الكاع ....حيّاك يابو حلا

في الزّنزانات أُكادُ أنْ لا أُبالغ أَنّي رأيت كلَّ تأريخ العراق المرير، وأنا شاهدٌ على أقسى صور تأريخ حقبة البعث، شاهدتُ شباباً تموت جوعاً، وجلّادين يحفرون أجسادَ أطهر البشر بسياطهم،ورأيتُ علماء دينٍ من النّجف الأشرف،ورأيتُ أساتذة جامعاتٍ، ومفكّرين، ورأيتُ أبناء أُسَرٍ علميّةٍ كريمةٍ وكنتُ صابراً خائفاً،ولكنّي لم أتمالك نفسي فانفجرتُ بالبُكاء حينما رأيت بعيني سماحة السيّد علاء الحكيم يقتاده الجلّادون بعنفٍ وبكلّ هوانٍ، وشفتاه تتحركّان بذكرِ الله بالتّسبيح،والتّهليل،وعلمتُ أنّ البعض من آل الحكيم يقتادهم الأمن البعثيّ في الغرفة المجاورة.   

كلّما اكتظّ بنا المكان، وأضافوا إلى أعدادنا أعداداً،أخذوا منّا وجبةً، حتّى عاد عندنا مصطلح (الوجبات) يعني إخراج مجموعة منّا إلى المجهول!  إلى أيّ مكانٍ يُساقون هؤلاء العُبّاد الورعين؟! لا ندري إلى أين يقتادونهم  وإلى أين تسوقهم الأقدار، وقد علمنا فيما بعد أنّ البعض منهم دُفن حيّاً، وآخرين انهالوا عليهم بالرَّصاص،ثمّ واروهم الحفر، وبعضهم مات تحت سياطهم. وفي ليلةٍ من ليالي هذا الشهر الرّمضانيّ نادوا بأسماء: الدّكتور مزهر الطّحان، والأستاذ عبد العظيم من الناصرية، وهاشم عبد الدّراجيّ،  والدكتور ضياء النقوي، وعشرات الأسماء وكان  أحد السّجناء وهو (المهندس عدنان)، رأيته يضطرب خوفاً، وكأنّهُ كان على يقينٍ أنّه سيُعدم، وأنّه عبر تحليله العميق عَرفَ أنّه سيُساق إلى الموت ، صاحوا باسمه، فقال لي: خُذْ، هذه (صمّونتي) كنت ادّخرتها لأفطر بها، هي لكَ، ويداهُ ترتجفان، وهو يهتزّ كسعفةٍ يلوي بها ريح الخوف والذهاب إلى المجهول، عانقتهُ وبكيتُ، بكيتُ على فراقه وما كنت أعلم انه سيمضي الى الحياة أم الموت.

ما أطهر هذا الرّجل، لقد كانت دموعه تنسابً في هذه اللّحظات التي يساق فيها إلى الموت تنساب عَلَيَّ؛ لصِغَر سِنّي، وفقدي لأهلي وتشتّت حالي، وهو يعلم أنّه سائرٌ إلى الموت، ولا يفصله عن الشّهادة إلاّ لحظات.

صلّى عدنانُ مسرعاً، وكان الجلّادون يتنقّلون بين الزّنزانات وقبل أن يصلوا  إلى زنزانتنا أكمل صلاته وهو يدعو: يا ربّ إنْ قدّرتَ لي الشّهادة فقدِّر لي مَنْ يدفنني.

استغربتُ لهذا الدّعاء، قلت له: (شنو هذا الدّعاء، أنت  راضي بالشّهادة، وخايف محد يدفنك، ليش، أهلك وين؟) قال بعبرةٍ واختناقٍ بالبكاء ولحظاتٍ محرجة: (ولك حبيبي منين لي أهل ، أهلي كلّهم مسفّرين)! وكانت هذه آخر لحظة لي معه في هذه اليوم الرّمضانيّ.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك