المقالات

لقطات من الإنتفاضة الشعبانية/ اللقطة السادسة


 

إلتقطها / أحمد رضا المؤمن ||

 

بعد الغَدر الأمريكي بالثورة الإسلامية في العراق قَرّرت قوات التحالف بقيادة أمريكا إطلاق يد الطاغية صدام والسماح لهُ بالقضاء على الثورة وبأبشع صورة فسكتت أمريكا عن قيام صدام بإستخدام الطائرات المروحية والمدافع الثقيلة بل حتى صواريخ الأرض ـ أرض كما حدث في النجف وكربلاء لاحقاً .

حينها بدأ القصف المدفعي يقترب جداً من الأحياء الشمالية القريبة لمنزلنا قرب منطقة مكتب الرشيد وسمعنا بأن معارك ضارية إندلعت بين المجاهدين وقوات الجيش الصدامي في المزارع القريبة من المطحنة .

إستدعت شدة القصف وإقترابه أن يُقرر والدي الهروب بسرعة من القصف قبل أن تقع قذيفة ما علينا فأخذنا على عجالة صندوق كارتون وضعنا فيه كميات مُتواضعة من الطحين والسكر والزيت لم نكُن نعلم بأنها ستكون فيما بعد المواد التي ستنقذ حياتنا من شبح الموت جوعاً بسبب ما لاقيناه لاحقاً .

ولا يُمكن أن أنسى المنظر الذي شاهدناه في الطريق إلى منزل جدي من قيام ثوار النجف الأبطال وهُم يذهبون بالمئات بشاحنات (اللوري) الضخمة للجهاد في كربلاء ضد قوات صدام دفاعاً عن حُرمة مرقدي الإمام الحسين "ع" والعباس "ع" ، كان منظراً رهيباً بحق .. الآلاف من خيرة شباب النجف المؤمنين الشُجعان الأطهار وهُم يحملون على ظهورهم صواريخ قاذفات (R.P.G.7) وعلى صدورهم مع عَشرات القنابل اليدوية (الرمانات) .. هتافاتهم تُزلزل شارع كربلاء ـ نجف ( ثورة النجف ثورة حُسينية ) ( أبد والله ما ننسى حُسينا ) ( الموت لصدام الهدام) (لا إله إلا الله .. صدام عدو الله) ..

وبعد أن إستقر بنا الحال في بيت جدي المرحوم السيد صاحب السيد جاسم المؤمن والكائن في محلة البراق (عگد ستّمني) (خلف مكتب السيد السيستاني حالياً) إنتابنا شعور وإحساس كبير بالأمان والقوة ، فالبيت ذو (90) متر مربع مع سرداب نيم وسرداب عادي وسرداب آخر يدعى (سرداب سن) شُبه مطمور بسبب الرطوبة العالية بالإضافة إلى طابقين في الأعلى ، كما أن موقع البيت كان يُعتبر في قلب عاصمة الإنتفاضة وأحداثها وغُرفة عملياتها المتمثل بمركز المدينة القديمة .

لم نعُد نسمع بعدها أصوات المدافع والقذائف إنما نسمع أصوات سماعات الصحن وإذاعتها ونداءات قيادة الثورة كل قليل : ( نداء .. نداء .. نداء .. ) ثُم يتلو قاريء النداء بياناً حول الثورة وأوضاعها .. مرة حول إنتصارات المجاهدين ومعاركهم ، ومرة حول إكتشاف سجون سرية للنظام المباد تحت الأرض ، ومرة مُناشدة للتبرع بالدم أو الغذاء أو المال .. إلخ .

شاهدت على رصيف شارع الرسول "ص" نهاية الفرع الذي كُنا نسكنه مفرز طبية لإسعاف الناس عموماً والمجاهدين الثوار خصوصاً يشرف عليها ويديرها مُعاون طبي إسمه حسن عبد الأمير الرواف أبو علاء .

وفي أحد الأيام كُنت بصُحبة أبي بعد جولة في شوارع وأزقة عاصمة الثورة دخلت بعدها إلى العتبة العلوية المقدسة فلَفَت إنتباهي كيف أن المجاهدين كانوا يَتَرَكّزون بالعتبة ويتخذون منها مركزاً لعملياتهم حيث إستفادوا من غرف الصحن وأنشأوا إذاعة محلية خاصة بالإنتفاضة وأخبارها وبياناتها في الركن الجنوبي الغربي من الصحن ، وعلى سقف كيشوانية القبلة قام أحد المجاهدين بإلقاء منشورات تلقفها الناس بلهفَة وسُرعة شديدة قيل بأنها صحيفة ناطقة بلسان حال الثورة .

وقبل أن نخرُج من باب القبلة رأينا شخصين من الثوار يجلسون أمام غرفة الكيليدارية يضعون أمامهم صندوق مكتوب عليه تبرّعات للثورة ، هُنا أخرج أبي مَبلغ (5) دنانير وطَلَبَ مني أن أسلمها لهُم بنفسي بعد أن إبتعد قليلاً عنهم ، وفيما بعد علمت بأن المرحوم والدي لم يُسلم التبرع بنفسه وفضّل الإبتعاد لأنهُ كان يتوقع وجود جواسيس من الأمن والمخابرات والبعثيين من المحتمل جداً أنهُم كانوا يُراقبون الأوضاع ويُشخصون الأسماء المتعاونة مع الثورة ، وهو ما حصل .

وعندما بدأ الحصار والقصف الصدامي يَشتد ويقترب أكثر فأكثر أصبح الخروج من الدار صعباً جداً ومُغامرة رهيبة ، وبسبب النقص الحاد في مياه الشُرب فقد حاولنا الخروج إلى منزل أحد أقاربنا في منطقة الجديدة للحصول على ماء الشرب ولكن لم يتجاوز ما حصلنا عليه أكثر من (10) لترات بالكاد كانت تكفينا .

كانت مُشكلة الماء تقلقنا أولاً لعددنا الكبير وثانياً لإشتداد الحصار علينا أكثر فأكثر ، حينها فكّر والدي بالمستحيل لجعله مُمكناً !

كان منزل جدي مُصمم على طريقة البناء النجفية القديمة حيث كانت توجد فيه بالوعتان للمياه واحدة للمياه الثقيلة (النجاسة) والأخرى لمياه الطبخ ولأن الناس في ذلك الزمان كانوا يستحرمون أن يجتمع فضلات الطعام في نفس بالوعة المياه الثقيلة (النجاسة) إكراماً لنعمة الطعام .

قرر والدي أن نستعين بمياه بالوعة مياه المطبخ بعد أن نُصفيها من الأوساخ ونغليها بالنار لتعقيمها ولكن دون أن نشرب منها شيئاً وإنما لإستخدامها في الغسل الضروري وتطهير ملابسنا ، أما مياه الشُرب فقد كان هُناك بقايا ماء طاهر ونظيف في خزان سطح الدار تقدر كميته بعشرون (20) لتر خصصه والدي فقط للشرب .

ولكن ما أن أردنا تنفيذ فكرة الإستفادة من مياه بئر الطبخ التي إستخرجنا منها كمية عبر مد الحبال والأقداح حتى واجهنا مشكلة عدم وجود وقود أو حطب لتغليته وتعقيمه ، فما كان أمامنا إلا أن نقتلع باباً خشبية قديمة في الطابق العلوي قرب سطح الدار ثُم نُكَسّرها إلى قطع أصبحت صالحة للحطب الذي أنجز المهمة !

أما الغذاء فقد كان بقايا الطحين والسُكّر والزيت حافزاً لنسائنا لأن يَصنَعنَ بعَمَل حلوى (العصيدة) والتي لم أكُن آكُلها لولا عَدَم وجود أي بديل ، فلا يوجد أي أكل من أي نوع إطلاقاً.

أما الخبز فقد كانت نساءنا تعمل قرص خبز دائري بحجم كف اليد على مدفأة نوع (علاء الدين) خُصصت للطبخ فقط وليس للتدفئة تقرر أن تكون حصة كُل فرد منا قرص واحد في اليوم عدا الأطفال فإن حصتهم قُرص ونصف !!

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
almajahi : نحن السجناء السياسين في العراق نحتاج الى تدخلكم لاعادة حقوقنا المنصوص عليها في الدستور العراقي..والذي تم التصويت ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
جبارعبدالزهرة العبودي : لقد قتل النواصب في هذه المنطقة الكثير من الشيعة حيث كانوا ينصبون كمائنا على الطريق العام وياخذون ...
الموضوع :
حركة السفياني من بلاد الروم إلى العراق
ابو كرار : السلام عليكم احسنتم التوضيح وبارك الله في جهودكم ياليت تعطي معنى لكلمة سكوبس هل يوجد لها معنى ...
الموضوع :
وضحكوا علينا وقالوا النشر لايكون الا في سكوبس Scopus
ابو حسنين : شيخنا العزيز الله يحفظك ويخليك بهذا زمنا الاغبر اكو خطيب مؤهل ان يحمل فكر اسلامي محمدي وحسيني ...
الموضوع :
الشيخ جلال الدين الصغير يتحدث عن المنبر الحسيني ومسؤولية التصدي للغزو الفكري والحرب الناعمة على هويتنا الإسلامية
حسين عبد الكريم جعفر المقهوي : عني وعن والدي ووالدتي وأولادها واختي وأخي ...
الموضوع :
رسالة الى سيدتي زينب الكبرى
فيسبوك