المقالات

لا تأخذوا الأمور على محمل الجدّ..فالعالم يغرق في التفاهة!

1034 2021-01-28

 

زينب فخري ||

 

ثمَّة سؤال مكين يتردد صداه في الآفاق: لماذا يُغيب الكفؤ وذوو المؤهلات المنفردة، ويتسيّد المشهد من هم دون ذلك؟ بل لماذا استشرى الفساد وهُمشت القيم وتردت معايير الجودة؟!

هذا ما يخبرنا به كتاب "نظام التفاهة" للمؤلف آلان دونو، أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبيك الكندية، الكتاب صادر عن دار سؤال البيروتية، عام 2020، ترجمة وتعليق الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري.

يتمحور الكتاب حول فكرة غاية في الخطورة والأهمية، تتناول إشكالية النظام السائد في العالم وسيطرة التافهين على مواقع أساسية من الحياة الاجتماعية؛ واختراقهم لكلّ المجالات، وهو واقع يصفه الكاتب بالقول: "يلحظ المرء صعوداً غريباً لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين: فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيّب الأداء الرفيع، وهُمّشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيّدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين ذوي البساطة الفكرية وكلّ ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية".

وتقول المترجمة الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري في المقدمة التي عرضت فيها أفكار الكتاب: "نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة تتعلق بسيادة نظام أدى، تدريجيا، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة".

ويستعرض الدكتور دونو في كتابه عيوب ومفاسد النظام الرأسمالي بجميع أنساقه ومؤسساته بأسلوب نقدي تحليلي، ويبين آثاره على أطياف المجتمع كافة مستحضراً أمثلة وشواهد تؤكد أنَّ نظام التفاهة يتمظهر من خلال السياسة والاقتصاد والمؤسسات الأكاديمية والثقافة والفن والإعلام، وأنَّها باتت محكومة بما يصفه بـ"اللعبة" التي تقودها "سلطة خالصة مُطلقة من أي عنان، ولا قواعد مكتوبة لهذه اللعبة.

في الفصل الأوَّل الموسوم (المعرفة "الخبرة") من الكتاب، ينتقد المؤلف الأكاديميات وقطاع التعليم باعتبارها آلة إنتاج المعرفة والثقافة الاجتماعية، فيكشف عن توجه هذه  المراكز إلى الإنتاج والتجارة البحتة؛ لأنَّ نظام التفاهة يجعل الفكرة المحورية لعمل هذه الجامعة أو ذاك المعهد هي زيادة الإنتاج وإن أدى ذلك إلى إهمال غاية العمل التدريسي الأساسية التي تتمثل في تكوين المعرفة ونقلها، فنظام التفاهة يُقصي أي محاولة للعودة إلى هدف التعليم المعرفي والنهوض به؛ وباتت الجامعات تخضع للعبة وتمتثل لسلطة «الوسط- العادي»، سواء في أسلوب إدارة الجامعة أو اتجاهات البحث فيها أو توظيفاته أو في شروط القبول والتخرج، وفرض على الأساتذة إنتاجًا مستمرًا ذا جودة مقبولة أو إعادة تدوير أبحاث قديمة أو سرقة جهد طلابهم ومساعديهم الذين يعملون بأجر قليل دون تثبيت وظيفي.

فيما سلط الفصل الثاني الضوء على "التجارة والتمويل" في نظام التفاهة، فيؤكد أنَّ اقتصادنا يحركه اليوم روبوتات وخوارزميات لسنا قادرين على استيعاب آلية عملها وسرعتها، لكننا مجبرين على دفع ثمن أخطائها. في هذا السياق تُستخدم برامج التثقيف الاقتصادية لتشتيت الناس ومنعهم من إدراك الفوضى السائدة في سوق البورصة. فبدلاً من توعية الفرد بشكل حقيقي تهدف هذه البرامج إلى تضليله. فهذا الاقتصاد الغبي كما يسميه الكاتب، يغيّب عقولنا ويطحننا بالضرائب بينما يتغنى بإنتاج الطائرات النفّاثة فائقة التكلفة لأصحاب المال ورؤسائه الفاسدين الذين ينهبون الثروات العامة. ويعتقد دونو أنَّ نظام السوق هو السائد والمتحكم الآن، وكلّ ذلك يتم بعنوان "الحوكمة" التي تحاول إفراغ مفهوم السياسية من قيم مرتبطة بأفكار الحقّ والواجب والعمل والالتزام والصالح العام، واستبدالها بمفاهيم الإدارة والشراكة والخصخصة وتحقيق الربح، ومن ثمَّ تتحول الدولة إلى محض شركة تجارية.

وينتقل إلى السياسة، مفترضا أنَّ الديمقراطية خرجت عن معناها الحقيقي، وهذا يعني أنَّه على الرغم من ادعاء تجمع ما أو حزب أو برلمان أنَّه ممثل لإرادة الأغلبية، فإنَّ بمرور الوقت سوف يؤدي به إلى الاستئثار بعملية صنع القرارات الكبرى، وإن أتت عبر صناديق الاقتراع (زعماء أحزاب، رؤوس معارضة، قادة عماليون، نواب برلمان). فنحن محكومون من قوى سياسية تجمع ما بين التفاهة والكليبتوكراسية، وهو مصطلح – كما تقول المترجمة، اصطنع في بدايات القرن التاسع عشر، ليصف النظام السياسي المُسمى "حكم اللصوص"، وهو النظام الذي يسمح بالفساد وسرقة المال العام والخاص من خلال تسهيل القائمين على مرافق الدولة باستغلال المناصب الإدارية والسياسية، ويُطلق على المستفيدين من هذا النظام "كليبتوكراتس".

ويعرج إلى "الثقافة والحضارة" في الفصل الثالث من الكتاب، ليؤكد أنَّ في نظام التفاهة نجد التافهين يدعمون ليس فقط فناناً منفرداً أو مدرسة أو حقلا معرفياً بل يدعمون كذلك المنتجات الثقافية الاستهلاكية لصناعة جماهيرية مرتبطة بشكل عميق مع قطاعات أخرى، ولا داعٍ بعد الآن لتتظاهر لكلّ من السينما والاذاعة بكونهما فناً بل هما أعمال تجارية تم تحويلهما إلى ايديولوجيات بهدف تبرير الهراء الذي تنتجه عن عمدٍ. فسادت النمطية والوسط العادي من الأفلام والأغاني والإعلانات ووسائل الإعلام العامة. وبات المستثمرون يقدرون عالياً الفنانين "خالقي الإيراد أو فائض القيمة"، بلغة المستثمرين الخاصة، وعندما ينظر إلى بعض المشاهير على أنَّهم حققوا شهرة عالمية؛ فليس ذاك على وفق معايير الجمال وإنما بما يتلاءم مع خط العمل التجاري خاصتهم، وحتمياً مارس بعض المثقفين "اللعبة" بوصولهم إلى قناعة مفادها أنَّ أرباح الشركة الثقافية التي تشارك في الاقتصاد هي مجدية أكثر من أفكارها الجمالية، وستكون مقبولة من الجمهور المستهدف بعد حملة دعائية مصممة بعناية، فالمثقف يجبر في نظام التفاهة على مباشرة "الأعمال التجارية على أن يكون ذلك وفقاً للطريقة السليمة وباتباع النصائح السديدة". وأما التلفاز فقال دونو عنه: إنه أصبح حاوية (للكليشة) للكلام المكرر، والمحيط الأمثل للمباراة في صراخ، أما الأفكار الرصينة والمفارقات والتأملات فسوف تبصق مثلما تبصق بذور الفاكهة؛ فموجات التسطيح، وتشابه الشخصيات الضيفة والبرامج، وغياب العقل النقدي هي المفردات السائدة في الثقافة بما فيها الصحافة والكتب.

ويؤكد دونو في نهاية كتابه أهمية قيام ثورة شاملة على هذا النظام الذي يقودنا إلى الانحطاط الأخلاقي والنفسي والمادي والاجتماعي والثقافي والمعرفي لكنه لم يستعرض تفاصيل كافية عن هذه الثورة، باعتبارها الخلاص من هذا النظام الضخم البالغ التعقيد الهادف إلى تسطيح كلّ شيء وتسفيه الفكر التحليلي النقدي بفعل التسليع الرأسمالي بشكل منهجي ومكين، ولم يتطرق إلى البدائل التي تتناسب مع تفكير الرافضين لهذا النظام وبالشكل الذي يحافظ على مسارهم الإبداعي العقلي والتمثّل القيمي الإيجابي البنّاء. فيما بدت المترجمة أكثر يأساً بقولها: " قد لا يصدق أحد ما أقوله، ولكنني أؤكد لذوي الرأي الحرّ، المخالف/ المختلف، المُعلن: إلى أن تنتهي هذه المرحلة لا يوجد دعم، أياً ما كان وزنه، يمكنه أن يحميك من عذابات الحياة اليومية التي تتطلَّب احتكاكاً - على مستوى التفاصيل - مع التافهين وضّيقي الأفق. كلّ اتصال اجتماعي، كلّ اجتماع عمل، كلّ معاملة رسمية، كلّ مشوار للسوق بل وكلّ توقّف قصير في إشارة للمرور، سيحمل معه تحدّياً حقيقياً. أنتم فدائيون".. هكذا يتكرر القول في "حفلة التفاهة".. لا تأخذوا العالم على مِحْمَل الجدّ!

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك