المقالات

عْاشُورْاءُ السَّنَةُ السَّادِسةُ (١٨)


 نـــــــــــــــزار حيدر

 

   دَخَلَ رجلٌ على الإِمام جعفر بن محمَّد الصَّادق (ع) في المدينةِ المنوَّرة وسأَلهُ عن حُكمِ دمِ البعوضة يقتلها على جسدهِ!.

   وقبل أَن يُجيبهُ الإِمام سأَلهُ؛ من أَيِّ البلادِ أَنت؟.

   قَالَ الرَّجلُ؛ أَنا من الكُوفةِ.

   ردَّ عليهِ الإِمام؛ يا سُبحان الله تقتلُون جدِّي الحُسين سبطَ رَسُول الله (ص) في كربلاء ولَم تسأَلوا عن حُرمةِ دمهِ، وجئتَ تسأَلني عن حُكمِ دمِ البعوضة؟!.

   هذه القصَّة تصوِّر حقيقة واقعنا الْيَوْم، نُدقِّق في حِليةِ وحُرمةِ الأَشياء التَّافهة ولا نُعيرُ اهتماماً لحُكم الأَشياء العظيمةِ، فمثلاً؛

   نُحارب المواطن الفقير الذي تجاوزَ على شبرٍ من الأَرض ليسترَ بها أَهلهُ وعِرضهُ وناموسهُ، ونغضُّ الطَّرف عن سياسيِّين، ومنهُم معمَّمون فاسدُون، تجاوزُوا على الدَّولة وأَملاكها وأَموالها وكلَّ ما خلقَ الله فيها وعليها!.

   نُرهب البنت الغلبانة بالعذابِ الأَليم إِذا أَظهرت شعرةً من رأسها من تحتِ حجابِها، ثم نتفنَّن في ذكرِ الآيات والرِّوايات التي تصوِّر حجمَ العذابِ الذي ينتظرها يومَ المحشرِ! ونغضُّ الطَّرف عن كلِّ هذا الفساد والفشل الذي يقلِّب البلاد يميناً وشمالاً من دونِ أُفُق!.

   أَمَّا أَجهزة التَّصوير، بمُختلفِ أَسمائِها ومسمَّياتها، فتكتشف الدِّرهم في مَعِدة مواطنٍ فقيرٍ عثر عليهِ في المزابل، ولكنَّها كلَّها لا تكتشف المليارات التي ابتلعتها العِصابة الحاكِمة في بطُونِها.

   حتَّى أَجهزة السُّونار مُتواطئة مع الحُكَّام الظَّلَمة.

   نُدقِّق في حُكمِ الأَشياء التَّافهة ونغضُّ النَّظر عن سرقةِ البترُول والمال العام وحقوق المواطنين والگمارگ وهدر ميزانيَّات الدَّولة الإِنفجاريَّة.

   طبعاً أَنا لا أُريد هنا أَن أُقلِّل من خطورة الذُّنوب الصَّغيرة، سواء على المُستوى الشَّخصي أَو المُجتمعي، أَبداً، فلكلِّ ذنبٍ موقعهُ في خارطةِ الفسادِ والفشل، وهو يترك أَثرهُ السَّلبي في المُجتمع بمقدارِ حجمهِ وطبيعتهِ، ولذلك قال رَسُولُ الله (ص) {إِيَّاكُم ومُحقِّرات الذُّنُوب فإِنَّها تجتمِعُ على العبدِ حتَّى تُهلِكهُ} وعندما سُئِل عنها قال؛ هي الذُّنُوب الصَّغيرة التي يستحقرها المرءُ لتفاهتِها.

   إِنَّما الذي أُريد قولهُ هو أَنَّ مثل هَذِهِ الذُّنوب مصدرها وسببها الحقيقي هي الذُّنوب الكبيرة والعظيمة التي يرتكبها [الكِبار] فيُفسدُوا بها الجو العام والمُجتمع.

   ولذلك نرى أَنَّ الحُسين السِّبط (ع) إِستهدف في عمليَّة الإِصلاح تغيير السُّلطة لأَنَّها أُسُّ البلاء فهو (ع) لم يستهدف القضايا الأُخرى، المُنحرفة والفاسدة والخطأ في المُجتمع، مع أَنَّها كلَّها انحراف، لأَنَّهُ (ع) يعرف جيِّداً بأَنَّ السَّبب الحقيقي الذي خلقَ الأَجواء لها هي السُّلطة الفاسِدة.

   حتى فسادُ دينُ النَّاس سببهُ الحاكِم الظَّالم الذي يحكم بالظُّلمِ والعُدوان، والعِمامة الفاسِدة التي تتستَّر بالزيِّ المُقدَّس، ولهذا السَّبب فعندما التقاهُ مروان بن الحكم في الطَّريق واقترحَ عليهِ بَيعة الطَّاغية يزيد ليسلم! ردَّ عليهِ الإِمام بالقَول {إِنَّا لله وإِنَّا إِليهِ راجعُون وعلى الإِسلام السَّلام إِذا بُليَت الأُمَّة براعٍ مِثْلَ يزيد}.

   سُلطة الفاسد أَعظم مصيبة!.

   وكما قال الشَّاعر؛

   إِذا كان ربُّ البيتِ بالدفِّ ناقِراً

   فشيمةُ أَهلُ البَيتِ كلَّهُمُ الرِّقصُ

   أَي أَنَّ الإِسلام كدين سيكونُ في خطر إِذا كان راعي الأُمَّة طاغية أَرعن كيزيد بن مُعاوية، وليس فقط أَخلاق النَّاس أَو تعامُلاتهُم أَو سلوكيَّاتهُم، ولذلك ينبغي التَّغيير من فَوْق.

   ولقد أَشار الحُسين السِّبط (ع) إِلى هَذِهِ الحقيقة في إِحدى خُطبهِ بقولهِ (ع) {أَيُّها النَّاس، إِنَّ رسولَ الله (ص) قال؛ مَن رَأى سُلطاناً جائِراً، مُستحِلّاً لِحرامِ الله، ناكثاً لعهدِ الله، مُخالفاً لسُنَّةِ رَسُولِ الله، يعمل في عبادِ الله بالإِثمِ والعُدوان، فلم يُغيِّر عليهِ بفعلٍ ولا قَولٍ، كانَ حقّاً على الله أَن يُدخِلهُ مَدخَله}.

   إِنَّ الذي يُرِيدُ التَّغيير حقاً والإِصلاح صِدقاً فعليهِ أَن يستهدف رأس الأَفعى ولا ينشغل ويُشغل النَّاس بالتَّوافهِ من الأُمور، خطأٌ هُنا وانحرافٌ هُناك وفسادٌ في مكانٍ ثالث.

   ينبغي أَن نصبَّ كلَّ جُهدنا، وعلى مُختلف المُستويات، لإِصلاحِ السُّلطة فهي أَساس البلاء وهي أَساس الفساد وهي أَساس الفشل في الدَّولة والمُجتمع.

   بدلاً من أَن نسأَل عن الحُكم الشَّرعي لدمِ البعوضة، لنسأَل قبل ذَلِكَ عن حُرمةِ دمِ الضحيَّة الذي تقطع السُّلطة الظَّالمة وريدهُ كلَّ يَوم.

   وبدلاً من أَن نستشكلَ على دِرهَمٍ يسرقهُ مُحتاجٌ، لنلاحقَ دولةً سرقتها العِصابة الحاكِمة.

   ٢٦ أَيلول ٢٠١٩

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك