{من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} صدق الله العلي العظيم.
طالت ولو قصرت يد الاعمار.. لرمت سواك عُظمت من مختار
من صفوة لو قيل اي فدهم.. لن تعدو شخصَك اعينُ النظار
لكن ارادت ان تحوز لنفسها.. عينَ القلادة فازدرت بنثار
علاقتي باحمد علاقة طفولة بدأت منذ نهاية الاربعينات ورفيق درب طويل. كان صديقاً ملازما للمرحوم اخي هاشم.. وكنت مع اخي اقرب للاصدقاء المتلازمين منه لعلاقات الاخوة المعروفة.. كنت اتقدمهما بالعمر والدراسة عامين.. لكننا كنا نذهب سوية لنفس المدرسة الابتدائية في السعدون، مدرسة “مدام عادل”، وكان احمد يتكلم دائماً عن شجاعة السيدة اللبنانية، التي جاءت الى العراق في العشرينات او الثلاثينات وافتتحت مدرسة ابتدائية نموذجية استقطبت نخبة كبيرة من خيرة التلاميذ.. سبقته الى المتوسطة في “كلية بغداد”.. فالعلاقة بين عائلتينا من جهة الرجال والنساء كانت وثيقة.. والدي السيد عبد المهدي كان من اوائل وزراء العهد الملكي ومجالسه التاسيسية والنيابية، وكذلك الحاج عبد الهادي الجلبي الذي ورث عن والده الحاج عبد الحسين الجلبي الزعامة التجارية والسياسية.. علاقات العوائل والصداقة والدراسة جعلتنا نلتقي، واحدى اماكن اللقاء كانت في مزرعة “السيف” في الكاظمية حيث كان لوالد المرحوم “مطحنة”، حولها المرحوم احمد لاحقاً الى دار سكن وقاعات ومقر لاعماله، وكانت هناك بركة مياه كنا نسبح فيها سوية في اشهر الصيف الحارة.
كان احمد ذكياً الى درجة لا تصدق، فغالباً ما كان يعفى من الامتحانات. اضطربت اوضاع اسر المرحلة الملكية، بعد 14 تموز 1958، فغادر العراق الكثير من الجلبية، فاكمل احمد بقية دراسته الثانوية والجامعية في الخارج.
المرحوم احمد ليس رجلاً عادياً، لذلك خسارته ليست حدثاً عادياً.. فهو شخصية مركبة وبسيطة في آن واحد. شاهدته في مواقف عرفانية وصوفية، مختلياً بنفسه والكتب العرفانية محيطة به، وهو يستمع الى موسيقاهم ومواويلهم. عندما اسس “المؤتمر الوطني” استقر في صلاح الدين في اربيل في بداية التسعينات، وكنت انا ايضاً امثل المجلس الاعلى والسيد الحكيم قدس سره هناك، كنا نلتقي كثيراً في داره. وقرأ لي مرة، وقد يكون في كتاب “الاسفار الاربعة” لصدر المتألهين فيلسوف العرفانيين الملا صدرا الشيرازي، يشرح فيها علاقة “الرقم” Number بـ “الوحدةUnit “، او على الاقل هذا ما اتذكره، فانا لست كاحمد خريج MIT لاكون عارفاً بهذه الامور.. وذكر لي ان في هذا المقطع برهاناً للعلاقة بين “الوحدة” و”الرقم”، والتي لم يبرهن عليها، الا في ستينات القرن العشرين من قبل عالم رياضيات اسمه “بواتية” في فرنسا.. اتذكر ذلك لانني درست في مدينة “بواتية” الفرنسية.
المرحوم احمد خزين معلومات واحداث، فهو قارىء ممتاز ومستمع من الطراز الاول، وذاكرته كنز من المعلومات الادبية والفنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والتاريخية والاسماء والمواقع.. لم اره يوماً يسجل محضراً او يكتب في دفتر، كما نفعل نحن في الاجتماعات.. لكنه كان يتذكر كل شيء بدقة متناهية.. لذلك يذكر احمد المعلومة وكأنه يقرأها من كتاب محفور في ذهنه.. وكان الجميع متفقاً ان احمد “كومبيوتر” بشري.
قلت ان احمد شخصية مركبة وبسيطة.. مقتدرة ومتواضعة.. شخصية جامعة للمتضادات في وحدة خلاقة. فـالمادية والروحية مجتمعة لديه، بدون تكلف او ادعاءات.. راسمالي يدافع عن الشيوعيين.. مسلم يقيم افضل العلاقات بالمسيحيين والازديين والصابئة ويقف ضد اضطهادهم وتهجيرهم واستبعادهم. عربي يقف مع الكرد والشبك والفيلية وغيرهم في احرج مواقفهم.. فكان متواصلاً مع البرزاني والطالباني واخوانهم.. احمد لم يكن طائفياً كما يتهمه اعداؤه.. فهو عندما ترأس اجتثاث البعث.. ورغم كل الاخطاء التي ارتكبت لكنه كان يردد دائماً ان القانون هو لحماية جمهور “البعثيين” والاقتصاص من طغاتهم فقط. وكان يردد ان البعثيين الشيعة لا يقل عددهم عن البعثيين السنة ان لم يكن اكثر. عدا ذلك فعلاقة برجالات السنة وقواهم، داخل العراق وخارجه، واسعة ومشهورة ومعلومة، سواء في لبنان او سوريا او الاردن. ويضم “المؤتمر الوطني” الذي اسسه، في صفوفه من قيادات السنة العسكرية والمدنية ما لم تضمه اية قوة سياسية اخرى. ولاحمد مواقف في مجلس الحكم وفي كافة مراحل العمل في الدفاع عن المظالم التي اصابت المناطق السنية وابناءها لن اقف عندها فالكل يعرف ذلك، لكنني اذكّر ان مرشحه لوزارة المالية كان المرحوم “كامل الكيلاني” في الحكومة التي شكلها مجلس الحكم يومها.
قلت ان احمد بسيط ومركب.. فرغم ثراء عائلته ونشأته في بيت من اغنى بيوتات العراق، لكن ذلك لم يؤثر على مواقف احمد.. فلم يقف مرة مع ظالم ضد مظلوم، او مع ثري ضد فقير.. وقف مع حركة المحرومين للامام موسى الصدر في لبنان.. ومع الثورة الاسلامية.. ومع المرجعية في النجف. يقول لي انه ساعد في جلب دواء للامام الخميني قدس سره في مرضه الاخير. دافع عن شيعة العراق فاصبحت له علاقات متميزة بالمرحوم مهدي الحكيم وسعد صالح جبر والسيد باقر الحكيم والسيد بحر العلوم وقادة المجلس الاعلى وحزب الدعوة ومنظمة العمل الاسلامي، ثم لاحقاً بالسيد مقتدى الصدر والتيار الصدري. فهو يفتخر بولائه لال البيت عليهم السلام.. كيف لا فقد دفن في الصحن الكاظمي الشريف.. بعد ان كان جده قد دفن في الصحن الحيدري في النجف الاشرف وابوه في المقبرة الزينبية في دمشق.. اما عمله الاكبر فهو وقوفه الصلب مع الشعب العراقي، ودوره الريادي في عملية اسقاط صدام حسين، وهو ما سبب له عداوات كبيرة طائفية واقليمية ودولية..
فاحمد كما اشدد بسيط ومركب.. فاحمد لم يكن امريكياً او بريطانياً او اردنياً او ايرانياً عند الكلام عن المصالح والتوجهات.. احمد ببساطة وطني عراقي لم اشهد له موقفاً الا دفاعاً عن العراق.. لم يدافع عن حق شخصي.. او ارث عائلي.. تعصبه الوحيد كان للشعب العراقي.. ويغالط الحقيقة من يقول ان احمد كان اداة لاحد.. فهو لم يقم الا بما يقوم به اي وطني مخلص متفان لانقاذ بلده. فعندما تحول صدام الى وبال وكارثة على السنة والشيعة والكرد وبقية ابناء الشعب العراقي، بل على المنطقة والعالم، تحرك احمد في اوضاع عزلة واحباط وفقدان بوصلة وضياع وتنصل من الاغلبية الساحقة. تحرك وتحالف مع كل من كان يقف ضد صدام، بل استطاع ببراعته ان يحول مواقف دول كبرى ومؤسسات عريقة كانت حليفة لصدام، الى مناهضة له. فالحقد لا يعرف قلب احمد، لكن احمد عنيد في مبادئه ومواقفه. لا يتواني بالوقوف ضد انقلاب حلفائه وارتكابهم الاخطاء. فهو رجل مفاوضات ووساطات ومشاريع واداب، لكنه رجل مبادىء واصرار وعناد عندما تأتي للمظلوميات والمبادىء. ويمكن الوقوف طويلاً في هذه الخاصية سواء عند التعامل مع احداث داخلية او اقليمية او دولية.. لكنني ساقف عند واحدة من اهمها وهو كلام الاعلام المضاد ان احمد هو رجل امريكا في العراق.. دعوني اذكر هذه الشواهد، وكلها في مرحلة مبكرة من الدخول الامريكي للعراق، اي (2003-2004).
في شباط 2004 زرنا واشنطن وكان الوفد من المرحوم عبد العزيز الحكيم والباجه جي والجلبي وهوشيار والداعي.. وكان لدينا لقاء مع رامسفيلد وزير الدفاع انذاك.. قلنا له انه بموجب اتفاق 15 تشرين الاول/ نوفمبر 2003 فاننا يجب ان نصل الى اتفاق امني حول وجود القوات قبل نهاية شباط.. فالتفت “رامسفيلد” الى السفير “بريمر” سائلاً، هل هذا صحيح.. فاجاب الاخير بالايجاب.. وهنا قال “رامسفيلد” مستهتراً، اجلبوا لي ورقة وساكتب الاتفاق خلال ربع ساعة..
لم يتردد احمد بالتعليق موجهاً كلامه لرامسفيلد.. اذن اجلب معك محاميك.
كانت العلاقات بينه وبين المسؤولين الامريكان متوترة.. ويعلم الجميع ان القوات الامريكية اقتحمت داره واخذت اجهزته، محاولة اتهام احمد بالعمالة لايران، بل عندما اشتدت اجراءاتهم عليه.. وذهب للاستقرار بضيافة الرئيس السابق الطالباني في “قلة جولان” في السليمانية، هددت الاجهزة الامريكية باختطافه.. وذهب الاخ هوشيار زيباري لابلاغه بنية الامريكان هذه. فوصل الامر الى حالة شديدة من التوتر، وطلب مني بعض افراد عائلة احمد ان اكلمه للتخفيف من هذا التوتر، ونقلت له الطلب، وقال ساحاول.. وكان لديه يومها مقابلات صحفية مع سلسلة من الفضائيات الامريكية التي تنظم برامج واسعة المشاهدة في فترة الفطور الصباحي..
وقال لي ساحاول ان افعل ذلك في تلك اللقاءات.. اما ما جرى حقيقة فهو انه عندما سأله الاعلامي.. ما هي مشكلة العراق؟ فقال احمد مشكلة العراق ثلاثة باءات.. فقال له المراسل لم افهم.. قال احمد مشكلة العراق بوش، بلاك ويل، بريمر.
رحم الله فقيدنا الغالي، واحسن مثواه بجوار الامامين الهمامين الكاظميين، واسكنه فسيح جنانه، وعزاؤنا لحرمه ام هاشم واولاده تمارة ومريم وهاشم وهادي، واخوانه العالم الجليل والقانوني الاول الدكتور حسن الجلبي، ابقاه الله للعراقيين ولطلابه ذخراً وكذلك الاخوة طلال وحازم وبقية افراد الاسرة الكريمة، ولانفسنا، ولملايين المحبيين من ابناء الشعب العراقي، وانا لله وانا اليه راجعون.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha