انخفض سعر "برنت" مرة اخرى الى 37 دولار/برميل.. ورغم ارتفاع الصادرات لمعدلات قياسية لم تشهدها البلاد سابقاً.. الا ان ما دخل العراق من واردات نفطية في شهر تشرين الثاني الماضي كان بالضبط 3.667 مليار دولار، بما فيها مستحقات الشركات، وذلك كله من المنافذ الجنوبية فقط، اذ لم نستلم شيئاً من المنافذ الشمالية.. وهذا المبلغ لا يكفي حتى لسد الفقرات الاهم في الموازنة التشغيلية، اما الموازنة الاستثمارية فهي لا يمكن تغطيتها الا بالاقتراض والعجز.. رغم ذلك ما زالت النقاشات والشعارات المرفوعة تدور في اعمها الاغلب خارج المعالجات الجدية، غير مدركين ان مرور الوقت دون قرارات جادة، يعني بالضبط قرارات تؤكد استمرار حالة التجهيل والتواطؤ. فاي نقاش لا يتناول تخفيضاً حقيقياً وعملياً في النفقات، او زيادة حقيقية وعملية في الموارد فهو نقاش غير جاد.
ولتخفيض النفقات هناك ثلاث ابواب اساسية.. الاول باب الهدر والنفقات غير الضرورية، والثاني المستحقات والرواتب والاجور وارزاق الناس، والثالث الالتزامات الخارجية او الداخلية من سياسات دعم وضرورات حرب وامن وصحة وتعليم وخدمات اساسية، الخ. وان انخفاض الموارد قد دفع الجميع للقبول بابواب موازنة انخفضت للنصف تقريباً، ولسان حالنا يقول "مجبر اخاك لا بطل"، بمعنى ان الظروف قادتنا لاعمال التخفيض وليس منطق الرشد اساساً. فلقد ارتفعت النفقات خلال الفترات الماضية بشكل جنوني، ورتبت "حقوقاً" وملاكات ومباني مشوهة وغير سليمة في مجمل النفقات وبكافة ابوابها، بسبب الاموال السهلة للنفط والتي صار من الصعب التراجع عنها، وهي واحدة من اهم المفاسد التي قادت اليها السياسات وسوء الادارة التي تم تبنيها قبل وبعد 2003. وهي كذلك من اهم العقبات امام اصلاح اقتصادي حقيقي في البلاد.
اما بالنسبة للموارد، فاما ان تأتي من زيادة انتاج النفط او اسعاره، او من القروض والمنح، او من استثمار الموجود من رأسمال بشري وطبيعي وموجودات واصول معطلة تمنعنا سهولة اموال النفط من رؤية اهميتها وما يمكن ان تغيره من مسارات. اننا نعمل على زيادة انتاج النفط والغاز رغم الاسواق الصعبة والمنافسات القاسية، واهمال البنى التحتية لعقود طويلة، وكثير من الصعوبات الاخرى المتعلقة بنا وبالشركات العاملة معنا.
اما اسعار النفط والتي كشف انخفاضها عوراتنا، فانها امر خارج ارادتنا بشكل كبير. يبقى موضوع القروض.. فرغم ان حركة الاقتصاد تقوم كلها على المصارف وتوفير القروض اللازمة.. الفارق هو بين قرض يستخدم لمجرد الاستهلاك والعبث والحروب ليولد مجرد اعباء والتزامات تسترق العباد والبلاد، كما حصل في ظل النظم السابقة، وتراكم اكثر من 120 مليار دولار لم نتخلص من حوالي 90% منها الا بعملية معقدة، مع استمرارنا بدفع الباقي ليومنا هذا.. وبين قروض تستخدم لتحقيق الارباح والمنافع القادرة على سداد الدين وتعظيم الموارد، وهي موارد طبيعية يمكن، ويجب، الاستفادة منها، لكن برشد وانتاجية. اما ازمة الاقتصاد الحقيقية والمخرج الاساس لها فيكمن في الموضوع الاخير، وهو استثمار مواردنا البشرية والطبيعية والتاريخية والحضارية والدينية والجغرافية، وهو ما تستمر الدولة وقوانينها وضوابطها وتعليماتها واجراءاتها وهيئاتها ومحاكمها بغلق معظم الابواب بوجهه. فبدل ان نحرر النشاط الاهلي الفردي والجماعي من قيود النظم والتشريعات والاجراءات التي قادتنا وتقودنا الى مأزقنا الراهن، فاننا ما زلنا اسرى لها لتستمر النقاشات بمنطق "كرصة خبز لا تثلمين، وباكة فجل لا تحلين، واكلي لما تشبعين"
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha