د.جواد البهادلي
صيحات تعالت منذ عشرينات القرن المنصرم لتطوير الأساليب الدراسية ومناهجها في مستوويها ... فما بعد عنفوان شباب التجديد آنذاك المشوب بالإنفعال واللامبالاة أشرقت تجربة الشيخ محمد رضا المظفر في كلية الفقه متسمة بالهدوء والحذر ووضع خطة التأسيس لمدرسة عالية للعلوم الدينية وكلية للإجتهاد تحديداً عام 1936م متبرعاً الشيخ عبد الحسين الرشتي وعبد الحسين الحلي للتدريس بصفوفها الأربع وتتمخض التجربة بعد معاناة عن ولادة كلية الفقه عام 1957م .
وبعد مسار قانوني بالإنضمام والتأميم بعد الإعتراف من الدولة فيها آنذاك منضمة إلى جامعة بغداد وقتها ، ثم المستنصرية عام 1979م ، ثم لتحط الرحل وتثقل بها جامعة الكوفة زنة علمية وصرحاً شامخاً فيها عام 1987م ، حتى ألغيت عام 1991م ، لتعود بإشراقة خجله عام 2003م من جديد . ومن هنا تبدأ الحكاية في عصر آخر .
يتحدث الشيخ المؤسس محمد رضا المظفر عام 1960م في مهرجان فاس في المغرب عن أهداف كلية الفقه - بمناسبة مرور أحد عشر قرناً على تأسيس جامعة القرويين الإسلامية في المغرب - فيقول : ( وقد لمس كثير من المفكرين صعوبة هذه المرحلة – أي مرحلة السطوح في الحوزة العلمية – فوجدنا أنَّ من الجدير بنا أن نسعى إلى فتح كلية منظمة لنتلافى بها كثير من النواقص التي يشتكي منه الطالب وذلك بتبسيط بعض الكتب وتنظيم المناهج والدروس والإمتحانات . وهكذا تم الأمر لجمعية منتدى النشر أن تفتح كلية الفقه لتخرِّج طلاباً لهم الاستعداد الكافي لحضور دروس كبار المجتهدين بالإضافة إلى القيام بواجب الدعوة إلى الدين الإسلامي وتبليغ مبادئه بمنابرهم وأقلامهم . وتحقيقاً لهذه الأهداف وضع منهاج كلية الفقه لسنواته الأربع ) .
ولذا نجد – بحسب فهمي القاصر – إنَّ الثقافة والدراسة لم أجدها لوحدها باعثاً لإلتحاق الطلبة فيها وإن كانت جزء العلة ، بل مضافاً لما سبق هو التزود بروح الرسالة المحمدية النابعة من فكر آل محمد (ص) ، والخروج بذهنية إسلامية مشبعة بمفاهيم الرسالة ؛ ولذا توزع المنهج بين الفقه وأصوله ، والقرآن وعلومه ، والحديث وتشعباته ، والفلسفة واتجاهاتها ، واللغة والنحو بمفرداتها ومدارسه المتنوعة ، وعلمي النفس والإجتماع ، واللغة الإنكليزية ، والأدب العربي ونقده ؛ مجالاً رحباً فيها ، ولم يغفلوا أمثال العروض وقانون الإلتزام بمصادره وأحكامه وهكذا .
مضافاً لهذا اشترطوا تقديم بحث تخرج نهاية المرحلة الرابعة تقوية للأقلام ، وتشجيعاً للبحث العلمي ؛ متخذين اللجان العلمية الفذَّة طريقاً لرفد المنهج والإشراف المباشر عليه والنظر فيه بين الحين والآخر نحو الارتقاء .
ومما وجدته في طيات مجلة النجف - الصادرة في الستينات – إنَّ من أعضاء بعض اللجان العلمية هو السيد هادي فياض رئيس جمعية منتدى النشر حينها ، والسيد محمد تقي الحكيم عميد الكلية – صاحب كتاب الأصول العامة للفقه المقارن – ، والشيخ أحمد البهادلي عضو مجلس الكلية يومها في ستينات القرن المنصرم – صاحب الكتب المنهجية كمحاضرات في العقيدة الإسلامية ، ومفتاح الوصول في علم الأصول والذي اعتبر كتاباً مقارناً ومنهجاً موحداً حتى لأمثال جامعة بغداد طوال ثلاث عقود من الزمن وتلاقفته جامعات أخرى لكن لم يَحل لبعضهم فعمد إلى إلغائه العام الماضي – ، وكذلك الشيخ محمد كاظم شمشاد ، والشيخ عبد الهادي الفضلي ؛ العضوين الآخرين في مجلس الكلية .
وقد قدمت هذه اللجنة مضافاً لتعديل المناهج دراسة لتفريع الكلية إلى قسمين ، مضافاً لفتح معهد عال للدراسات العليا كل ذلك قبل عام 1968م . وبقيت مراحل التألق والصقل حتى بعد ترسيم الكلية عام 1974م . محاولين تبسيط المناهج وفقاً لمقتضى المرحلة والحاجة تحقيقاً للهدف المنشود ؛ حتى أتت خطوة الشيخ المظفر الرائدة في منطقه وأصوله . مقتحماً منهج كتب القدماء من الحوزويين ومؤسساً للأكاديميين العمق في التحليل ، متخذاً من أحدث المناهج في التأليف في الدراسات الجامعية ؛ عرضاً وتبسيطاً وتمريناً وتعليقاً وتنسيقاً . كاسراً حاجز التقديس لبعض المؤلفات . وتبعه كتاب الشيخ الفضلي في مختصر النحو ومختصر البلاغة . مثلثاً الشيخ أحمد البهادلي في محاضراته العقائدية سالفة الذكر ، وأصول الفقه في مفتاحه ، وحديث أحكامه ، وفقهه الإستدلالي ، ومحاضراته الفلسفية ...الخ . مما حدا أن يقر الواقع بلطافة عرضه ، ودقة معلوماته ، وسهولة عباراته الفنية بنحو المصداقية لمقولة كانت : السهل الممتنع ؛ لذا اعتمدت منهجاً دراسياً لا في كلية الفقه فقط أو الحوزة النجفية حسب ، بل حوزات علمية أخرى كإيران، والخليج العربي ، وسوريا ، ولبنان ؛ حتى تُرجِم كتاب محاضرات العقيدة لخمس لغات عالمية .
مَطرَقةٌ علميةٌ قطعت أشواطاً طويلة مضنية ، لم يطلبوا فيها جزاء ولا شكوراً ، وما كان لله ينمو .
ولكن سندان الركود والجلوس في المستنقع المعرفي بلا صقل ضل وأضل ، فاليوم روح التسلح بالإسلام أصبحت مدعاة للخديعة والترهل ، وباعث الثقافة والدراسة تحول إلى باعث تحصيل شهادة جامعية جرداء لها محتوى فقير وعنوان طويل في عمق التاريخ ؛ منقلباً من جزء العلة إلى علة غائية برمتها كما يقول أهل الفن في الفلسفة ، وتحول الطلب الحثيث لفكر آل محمد ( ص ) وطرحه المبارك إلى طلب الدينار والدرهم ، والخروج بذهنية كيف تُوقع بأخيك ، أو كيف تجعل العصا في الدولاب .
ذهنية ملؤها التراجع والتفكك وحب الذات والأنا ؛ حتى كاد التراجع حتى الخلقي فيه نسبياً إلى حدود دنيا ، ومفاهيم الخديعة والالتفاف ؛ مبتعدين عن الخط المرسوم بلا روية في العمل ، أو حب للمؤسسة ، أو حمد لنعمة الإناء الذي نشرب فيه ، أو الصحن الذي نطعم أولادنا منه ؛ حتى باتت الإدارات المتعاقبة هذا يتباها أنّه وضع الدرجات جزافاً لتمشية القسم ، وهذا يجامل ذاك ، وهذا الأستاذ يوزع صكوك النجاح مقدماً على الطلاب بشرى لقبوله في الدكتوراه ، أو أنَّ سفراً صيفياً قريباً له بات يشغله عن وضع أسئلة ، أو تصحيح لدور ثاني ، أو إنَّ من لا يفقه أي ساقيه العلميين أطول أصبح في مقدمة الركب المختص ، أو الشيتات المفقودة والتي علمها عند ربي من قبل أعوام ؟؟. والفاتر المبعثرة ، وقسم التسجيل الذي يتنقل الطالب منه واليه باحثاً عن معدل سنين أربع لنقص عندهم لا يعلموا محله ، أو مجاملات وسعي لتقوية أرجل كرسي المنصب بلا هوادة تزلفاً لهذا وتقرباً لذاك ، ولا مانع لو كانت تصب بصالح المؤسسة التعليمية وأهدافها وفي رحالها ما يملأ الفراغ ويسد النقص بلا ترهات الأصوات المتعالية الداعية للتطوير، و السائرة إلى حيث لا تعلم . ولكن المهم بيروت الجمال والأنس بحجة وأخرى ، وكرسي اليونسكو ومنعطفاته وصيته ، وإيران ومؤتمراتها التي لم تنعكس لها الصورة النجفية إلا بكثرة السواد بسفر مجان ، وعلاقة وطيدة بل أشد ؛ حتى أصبحت صفقات الكراسي تعقد في مشهد المقدسة بصور شتى وتوقع في بغداد إنقياداً لمصالح أكبر يسجلها التاريخ طاعة عمياء ، ورأي مستلب فاقداً لمهنية التنصيب ، متوافراً على سياسة الإرضاء والإقصاء ، مؤسسين لمطلب كبير عنوانه ( ولا تزروا وازرة وزر أخرى ) ، وتستلم الفقه من هب لها ودب ، متسلقاً بطرق ملتوية فجأة ، وعلاقات وطيدة نحصدها مع المذاهب الأخرى لا بنحو الوسطية التي انتهجتها أو التقريب أو نشر فكر محمدي بصورة وأخرى ؛ قدر ما هو الطموح والفتح والإنفتاح متأملين مناقشة هنا أو هناك يكون لي نصيب منها .
الطالب اليوم – حسب نقل خريجو العام الماضي وقبله – الغش عندهم مادة اختصاص في كل المراحل ، وخُلق التعامل بدلاً من قوله (ع) : ( عاتبوا أخوانكم بكثرة الإحسان إليهم ) ؛ أصبح ضرباً بــــ ..... ، والتشهير طبع وليس تطبع ، متخذين أسلوب العرض بدلا ً من التحليل منهجاً ملتزماً به لقلة البضاعة . والحوار غير المقصود وغير المجدي بمفاده هدف مدوي . والمسميات العديدة فاقدة المحتوى عنوان عريض . وطول الباع في الإطاحة بالغير مسلك معتبر بنحو المصلحة السلوكية بمفهومها الأصولي الفقهي لا اللغوي دون قسيميها من الطريقية والموضوعية -واعني ما أقول- والتي عرفناها دراية أيام التحصيل تحت منابر مراجع التقليد الاربع في النجف الأشرف منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي . وأكفاء الأساتيذ في حوزتنا العامرة دراية في علم أصول الفقه وغيره . واللبيب يلتفت لما أعني وأشير إليه .
عوداً على بدء : أستاذنا الدكتور الصغير مد الله تعالى في عمره وأبقاه ناصراً لطلابه هو أعلى رتبة علمية على صعيد جامعة الكوفة بل الجامعات العراقية قاطبة ، ورمز من رموز العالم الإسلامي ، يتخرج على يديه كل عام أو نصف العام في مدة أصغرية كوكبة بالرغم من وضعه الصحي المتراجع لكنه متعالي بعلو الهمة ، وحب الغير ، والسعي لخدمة المشتغلين . والعشرات تدخل وتخرج من أمسياته اليومية والأسبوعية ولا يتوانى .
يقابله من يحلو له أن يكون الطالب عبداً ويتشدق بالعلم ويرى مسلك التمديد مسلكاً لدواع هم يعرفونها باسم الرصانة العلمية غافلين أنَّ البضاعة يجب أن تغربل من أول المطاف . ما لكم كيف تحكمون ؟ كيف تفكرون ؟ أين منهج الأقدمين وحداثة المعاصرين ؟ .
هل طرق أحدهم موضوعاً حداثوياً عصرياً ليطرح على الساحة بمؤلف يخرج باسم النجف الأشرف عاصمة التشيع ، وجامعة الكوفة رمز حضارتها كتجارب السابقين الآنفة ؟ . هل اعتلى المنصة من دوَّت كلماته مسامع الحضور وهزَّ قاعة المؤتمرات ومؤتمر ابن إدريس شاهداً قريباً لقولي ؟ .
هل من كتاب منهجي يحرره من يدعي العراقة فيها منذ عقدين وتزيد؟ ، أو طرح فكرة منهجية وهو يتقلب بين ظهراني الكليات والمعاهد الأهلية ؛ أولية وعليا ؟ .
أين عطائكم المعرفي نظرياً وعملياً وأهداف الكلية المنشودة التي تقاتلون عليها ؟.
نعم لا تخلو الساحة من عناصر وفية عملوا وحاولوا وجدوا واجتهدوا . لكن الموج منه رعاع لا يعرف هوادة ، والمد والجزر متأثر بالقمر المنير كما يقولون ؛ ولكن غفلوا أن نوره إنعكاسات والقمر بذاته ظلمة صامتة ، يذهب النور ريثما ينقطع الإنعكاس من الغير.
من هذا المنطلق أقول : الحلول موجودة معروفة وهي أبين من الشمس وأوضح من الأمس . إنَّها الإدارة المترددة تقدم رجلاً وتؤخر أخرى غير عارفة بمجريات الأمور ؛ ومن تستقطب ومن تودع وترحِّل ، بل لا كلمة فصل لها إلا وراء الجدران خلسة ، ولا كلمة حازمة لها إلا بما تشتهي . وما محاولات الإصلاح إلا هواء في شبك ينظرها البعيد تلوح عملاً ويرى القريب خرقها المتسع .
ومنهج التطوير الجديد سأعرضه في وريقات حين أوان القطاف ، فلا يلدغ مؤمن من جحر مرتين، وعند الصباح يحمد القوم السرى . والحمد لله .. والسلام
https://telegram.me/buratha