( بقلم : فكري محظور )
قهرستان ارض منبسطة يحدها من الشمال ملتقى النهرين العظيمين نهر الضكة ونهر الضنكة ومن الجنوب المسطحات المائية الممتدة الى خليج الخنازيرالعربية ومن الشرق جبال متوسطة الارتفاع وأراضي متموجة ومن الغرب صحراء الجرابيع الصفراء , وغالب اهلها من قبائل المقاريد , والواحد منهم يدعى مقرودا ,وللتنويه هنا فإن القاف تلفظ جيما مصرية , وقد حار الكثير من الباحثين في أصل تسمية هذه القبائل , مثلما حاروا في أصل هذه القبائل ومن أين أتت , وخلاصة البحث في أصل هذه القبائل وسبب تسميتهم بالمقاريد واصل تسمية بلادهم قهرستان يطلعنا عليها الباحث التاريخي والمنقب الآثاري (خريبط المقرود) في كتابه الكبير تاريخ المقرودي ,فيقول : (كانت هذه البلاد والمسماة اليوم قهرستان ( بفتحتين وسكون ) تدعى بلاد جوريستان . وجوريستان كلمة مركبة من مقطعين اولهما (جوري) وهو نوع من الورود التي كانت تشتهر بها هذه البلاد, كما كان أهلها, كما يروى عنهم, من أكثر شعوب العالم عناية ورعاية للزهور والورود, حتى اصبحت الورود والزهور سمة مميزه لهم , وتأثروا بها تأثرا عظيما حتى غلب على طبعهم طبع الورود , وكما يروى عنهم فقد كانت تحيتهم المحببة الى نفوسهم والتي يحيون بها بعضهم البعض هي صباح الورد, ومساء الورد , وإذا مدحوا أحدا أو أعجبهم تصرفه قالوا عنه إنه (وردة مال الله), وقد دخلت الورود في موروثهم الشعبي حتى تغنى بها شعراؤهم , وغنى لها مطربوهم , وكانت لهم سوقا عامرة تسمى سوق الورود, واكثر التسميات التي تطلق على شوارعهم كانت اسماء مثل حي الزهور وحي الزنبق وحي القداح وحي الوردي ,واستخرجوا من الورد ماءا اسموه ماء الورد يرشونه بالمناسبات على رؤوس الحضور , ويطيبون به مشروباتهم ومأكولاتهم وينعشون به هواءهم , وكانت احب اسماء النساء اليهم من كان اسمها مشتقا من الزهور , وأكثر الاسماء شيوعا عندهم هو زهرة , وزهور ,وريحانة,وفلة وشقائق وقرنفل ووردة وجنبدة , وروز, وكاردينيا ,وُكلـزار ورازقية , وجورية . وقد عاش سكان جوريستان حياة رخاء وسلام ووئام سنين طويلة جدا . ولكن دوام الحال من المحال كما يقولون , والشعب الجوري كما كان يطلق عليهم , كان شعبا رقيقا كرقة الورد الجوري , ولم يكن يستطيع مقاومة شراسة جيرانه من قبائل الضواري والزوابع وأل ذويب وآل جليب , وآل ضبع ,والجحاش , والعنزيين , والثعالبة , وقبائل الرعاة من بني صخيل وبني عنزة, والمعيزات , وال عجل , والنعاج ,والجرابيع ( آل جربوع) من سكان البوادي الغربية والجنوبية الغربية , فكانت الهجمات المتتالية على جوريستان , تلحق الاذى وتنشر الخراب في ارض الورود , وكانت اشواك الورود التي يدافع الجوريون بها عن بلادهم تتكسر تحت أضلاف الجحاش والمعيزات وآل صخيل , حتى أقفرت ارض جوريستان , وفر أهلها منها وتوزعوا على جميع بلاد الله , ومن بقي منهم مقاوما الهجمات القطيعية , فقد أصبح هو الاخر مهددا بالانقراض والفناء , وقد دانت بلاد جوريستان للقادم الجديد وأذعنت مرغمة بعد ان رأى الجوريون أن البلاد اصبحت قاعا صفصفا , وتحولت الحدائق الغناء الى براري ترعى فيها ظبية الفلا , وأضحت لابن آوى مراحا , وقد ذوت الزهور وفارقت البهجة الالوان ,فلم يعد ثمة لون وردي أو أحمر أو أصفر , بل اصطبغت الاشجار والانهار والشواطي والوجوه والملابس باللون الخاكي الكامد الجامد البارد ,وغارت عيون الماء وشخصت الاعين للسماء , وشحت مياه النهرين العظيمين , واصبح ماؤهما غورا, ومذاقه ملحا أُجاجا. فتخليا عن اسميهما الجميلين ولم يعرفا إلا بنهر الضكة ونهر الضنكة ,واختفى عبق الزهور وعطرها الفواح, وحل محله رائحة البارود والدخان الاسود الممزوج برائحة الروث والبعر وعرق اجساد آل غنيم والمعيزات والجحاش والضواري والفهود وحلفائهم البهيميين من الغزاة الصحراويين , وحل الجور والظلم وعم العسف والضيم , وساد البغي والغي والطغيان , حتى أطلق على البلاد اسما جديدا وهو جَورستان , اي بلاد الجور والظلم والضيم والهضم وانتهاك الحقوق والمقدسات , ولم تسلم عقائد القوم من التشويه , وخاصة بعد ان اطلق الطاغوت الرابع المدعو ( صحم ابن العوجاء ) سلسلة حملات منظمة لمحق التاريخ المشرق للجوريين, في محاولة منه لمحو ذاكرة الاجيال , والحاكم الطاغوتي هذا قد حكم جورستان سنين طويلة , مات أثناءها الكثير ممن كان يشكل الذاكرة القومية للشعب الجوري , والكثير منهم غيب وراء الشمس او دفع الى المقابر الجماعية, واهيل عليهم التراب بصورة جماعية ليلا , وقد زرع الرعب في جميع حقول الورود حتى ذبلت الجنابد في أكمامها واصفرت البراعم وهي لما تتفتح بعد , واصبحت الحقول البهيجة والجنان المعروشة هشيما تذروه الرياح ,فمنذ ان اعتلى الطاغوت( صحم ابن العوجاء ) عرش جوريستان , أطلق حملات منظمة ومخطط لها بعناية فائقة , تستهدف الجوريين ووجودهم من الاساس , فقام أولا ببذر بذور الحسك والشوك والسعدان بين حقول الورود , بحجة حماية الحقول من المتطفلين , ولكن سرعان ما نمت هذه النباتات الشيطانية وكشرت عن أشواكها وتوسعت على حساب الورود الرقيقة المخملية , فاطمأن الى النتيجة , واسرع بتنفيذ المراحل اللاحقة , فقام بتجريف مساحات واسعة من حقول الزهور , بحجة تطويرها , لزراعة غابات تدر على البلاد الخير الوفير , ولم تكن الغابات المزعومة سوى معسكرات اعتقال ممتدة من أقصى البلاد الى أقصاها , اصبحت بمثابة معتقلات شعبية ضخمة متخصصة لاعتقال الشباب الجوري المخملي الرقيق والحساس , وتعريضهم للفح الشمس ووهج الظهيرة , وسموم السوافي ,بغية القضاء على اللون الوردي والحس المخملي للشباب الجوري , وتم له ما أراد , وذبل الالاف من البراعم والزهور والجنابد تحت وطأة اضلاف آل غنيم وبني معزة , وآل صخلة , وأطلق حملة شرسة ضد التعليم الاكاديمي , والذي كان الجوريون مغرمين به وبمناهجه , فأغار على المكتبات التراثية العتيدة وافرغ رفوفها من أمهات الكتب تحت ذريعة أن هذه الكتب تشكل حجر عثرة في طريق التحولات الثورية التي يريدها القائد (صحم بن العوجاء) لشعب جوريستان العظيم,وطارد العلماء والباحثين وحملة الفكرالحر , ففر من فر منهم واعدم من وقع في قبضته , تحت ذرائع شتى ,فانتشر الجهل بين صفوف الجوريين , وعم التخلف , ودبت الخزعبلات والخرافات بين صفوف الشعب الجوري, وعمت البطالة ,وأخذت الامراض والاوبئة , والانحرافات الاجتماعية تنتشر بين صفوف القبائل الجورية كانتشار النار في الهشيم , حتى بدأ الجوريون ينسون الكثير من تاريخهم , فلم يلتفتوا الى ما قد احكم لهم من شباك وفخاخ وحيل لتركيعهم وإذلالهم والسيطرة عليهم , وصدق الجوريون كل ما بثه (صحم ابن العوجاء) الرب الجديد لبلادهم من أفكار تتعلق بتاريخهم ومعتقدهم,وأنهم أقوام من الهمج الرعاع من رعاة الجاموس والمعدان لا دين ولا أخلاق لهم , إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا ,ونشأت منهم أجيال لا يعرفون لهم ربا إلا (صحماً ), ولا يسمعون صوتا إلا صوته , ولا يرون عبقريا غيره ,فصدقوا أنهم عبيد وأسرى جلبهم الاجداد الابطال المقدسين من وراء النهر , وقد ارتاحوا لما يطلق عليهم من أوصاف تذكرهم بأنهم شرقيين , او كما سماهم( صحم ابن العوجاء) ( شروق ), وبلغ بهم الحال ان الكثير من ضعاف النفوس من بينهم ,اتخذوا (صحما) الها لهم , فمجدوه ومدحوه , ورفعوه فوق رؤوسهم , ورضوا به الها رغم اشمئزازه منهم , وترفعه عليهم ,لأنهم بزعمة لا يليقون أن يكونوا عبيدا لمثله ,ونسي الكثير منهم الاصول التي كانوا ينتمون اليها , ومنذ ذلك التاريخ أُطلق عليهم لقب قبائل المقاريد ,والمقاريد هم مجموع الشعب الجوري بكل قبائله , الاشراف منهم والعامة, والكلمة هي جمع تكسير وتهشيم لكلمة مقرود , وقد حاول (صحم ابن العوجاء) وأتباعه اشاعة أن هذه اللفظة اي المقرود مشتقة من القرد , على أعتبار ان اسلاف هذا الشعب الجوري هم من القرود , وقد دعم نظريته بأدلة من نظرية دارون المسماة أصل الانواع , وهم مقاريد لأنهم ابناء القرود المنقرضين ,غير أن علماء اللغة وأساطين اللسانيات رفضوا هذه النظرية الاستعلائية والتي لا تهدف إلا للمزيد من الاذلال للشعب الجوري كما يقولون , وقالوا ان الكلمة مقرود هي كلمة عامية مشتقة من كلمة فصيحة وجذر فصيح , فيقال قرد الرجل بعيره (بتشديد الراء) إذا قاده ليخرج القراد منه , والقراد دويبة معروفة تلتصق بالابل وتتغذى على دمائها , وهي كالقمل للأنسان .ومنه أُخذ التقريد اي الخداع , وكأن الرجل يخدع الرجل كما يخدع البعير الصعب ليقوده كي يزيل القراد منه , وأقرد الرجل اذا سكت من عي وغُلب على أمره , وهنا بيت القصيد كما يقولون , فقد غلب الجوريون على أمرهم وسكتوا وسلموا حتى سموا بالمقاريد , كي يبعثوا إشارة الى اجيال المستقبل إلى انهم ظلموا وأُهينوا , وكم من كلمة موجزة حوت حكما ومعاني معجزة,وبمرور الزمان تبدلت الالسن , واصبح الشائع مهجورا , وألف الناس كلمة قهرستان بدلا من جورستان , وللحديث بقية . وهذا مقتبس من تاريخ المقرودي( لخريبط المقرود) وقد قام بتحقيقه(ابن جنبد القهرستاني ).وسوف نحاول لاحقا تسليط الضوء على الكفاح المرير للشعب الجوريستاني من اجل استعادة عبقه ولونه وملمسه المخملي , ودمتم محروسين
فكري محظور
https://telegram.me/buratha
