• المهندس لطيف عبد سالم العكيلي / باحث وكاتب
يعد نقص امدادات الطاقة الكهربائية العنوان الابرز في ازمة الخدمات البلدية والاجتماعية التي اكتوى بنيرانها شعب العراق الصابر منذ مطلع العقد التاسع من القرن الماضي على خلفية اوسع تدمير شهدته بنى البلاد التحتية ومرافقها الحيوية ، وبخاصة ما ترشح من تداعيات كارثية لحرب الخليج الثانية التي اعادت واقع الحياة العامة في العراق الى مظاهر العقود الاولى من القرن الماضي.ولا نبعد عن الواقع اذا قلنا ان واقع انتاج الطاقة الكهربائية في عراق اليوم يعبر عن تدني امداداتها الى معدلات حرجة لا ترقى في احسن الاحوال الى امكانية سد ادنى احتياجات المستهلكين ، على الرغم من ضخامة التخصيصات المالية التي حظيت بها وزارة الكهرباء منذ تطوير ادارتها الى مستوى وزارة قبل ما يقرب من ثمانية اعوام في اعقاب الزلزال السياسي الذي شهدته المنطقة في نيسان عام 2003 ولا يخامرنا شك في ان سياسات هذه الوزارة وبالاستناد على مخرجاتها لم تفض الى حلول ناجعة بوسعها التخفيف من تداعيات هذه المعضلة الحيوية التي ارهقت العباد واضرت بمصالحهم ، فضلا عن اسهامها بالتأثير سلبا على فاعلية اقتصادنا الوطني ؛ بالنظر لغياب امدادات الكهرباء عن مختلف المشروعات الصناعية .وبفعل فاعلية تداعيات قطاع الكهرباء في البلاد اصبح غالبية شعبنا ينظر اليها من نافذة ضيقة لا تتعدى حدود النزر اليسير من مظاهر حضورها في الحياة العامة . وهو الامر الذي افضى الى النظر اليها ، بوصفها جزء من الفولكلور العراقي بعد ان تقلصت بعض مظاهرها ، فضلا عن ضمور بعضها الاخر منذ تسعينيات القرن الماضي. فمدينة بغداد العاصمة على سبيل المثال لا الحصر كانت لؤلؤة تزهو حين بدأت العمليات العسكرية لحرب الخليج الثانية بحسب احد طياري قوات التحالف الذي اشترك بتنفيذ الطلعات الاولى على بنى البلاد التحتية واهدافها الحيوية مطلع عام 1991م ، ثم ما لبث ان اصبح ليلها اشبه باضوية شجرة عيد الميلاد ؛ بالنظر لاعتماد ادارة قطاع الكهرباء نظام البرمجة الذي سرعان ما إنهار وحول ليل مدينة السلام والشعر والثقافة الى ظلام موحش ، وبخاصة ليالي السنوات التي اعقبت التغيير السياسي في البلاد نتيجة ظهور جملة من العوامل الموضوعية والذاتية التي اسهمت بفاعلية في رسم صورة هذا الواقع الذي لا يليق بمدينة كانت يوما من اعرق واروع مراكز الاشعاع الحضاري على وجه البسيطة.ان اخفاق برامج ادارة قطاع الكهرباء في اعادة امدادات الطاقة الكهربائية الى سابق عهدها في ايام السبعينيات ، اسهم بشكل فاعل ومؤثر في اعادة ظهور بعض الصناعات المنقرضة التي تعد جزء من موروثنا الشعبي او ما يشار اليه باسم الفولكلور الذي تقابله من ناحية المعنى في لغة الضاد كلمة التراث .وقد ظهر هذا الاصطلاح لأول مرة في انجلترا عام 1864 م بعد ان استخدمه عالم الاثريات سيرجون وليام تومز بمعنى حكمة الشعب للدلالة على الابداع الشعبي ومأثوراته . غير ان العقود اللاحقة شهدت ظهور تعريفات عدة لهذا المفهوم الذي يشار اليه اصطلاحا ب ( علم الشعوب ) ،ولعل ابرز ما جرى توثيقه بهذا المجال هو ان الفولكلور يعني القديم وثقافة ما قبل التمدن ، وبعبارة اخرى الموروثات الثقافية في بيئة المدينة الحديثة .وعلى وفق هذا المفهوم تعد الكهرباء بالاستناد على محدودية مظاهر ظهورها في المشهد العراقي ، فضلا عن طبيعة صور بدائلها جزء من موروثنا الوطني . اذ ان محدودية انتاج الطاقة الكهربائية في العراق وشلل شبكات النقل والتوزيع ، وأيا كانت اسبابها افضى الى غيابها بشكل مؤثر على الحياة العامة في البلاد ، فضلا عن اضطرار المستهلكين الى استخدام بعض الاساليب والادوات التي تعد بدائية مقارنة مع ما يشهده عالم اليوم من استخدام واسع لمخرجات الثورة التكنولوجية المعاصرة . فالعوائل العراقية اصبحت تعامل مياه شبكة الاسالة بمادة الثلج التي كثيرا ما كانت عرضة للشكوك بصلاحيتها للاستخدام البشري من اجل الحصول على مياه نقية تريح النفوس عند شربها في مواسم الصيف بعد ان توقفت الثلاجات الكهربائية وبرادات الماء وغيرها من وسائل تبريد الماء الحديثة عن العمل. كذلك تعودت اغلب العوائل العراقية على التسوق اليومي للخضروات واللحوم وغيرها من مستلزمات تجهيز وجبات الطعام في المطبخ العراقي التي تكون عرضة للتلف في حال حفظها بمعزل عن اجهزة التبريد ؛ بالنظر لانتفاء الحاجة الى اجهزة التبريد والتجميد التي اصبحت من فضول الحياة العامة في بلادنا . وعلى حين غرة ظهرت في حياتنا العامة عناصر جديدة مثل الفانوس واللالة واللمبة التي اضمحل استخدامها في بلادنا منذ الربع الاخير من القرن الماضي لتدخل اليوم بشكل فاعل في ادق تفاصيل حياتنا العامة ، بوصفها بدائل مثالية لمختلف اجهزة الانارة التقليدية . واذا كانت بعض عناوين موروثنا الشعبي مثل المهافيف التي يشار اليها حاليا باسم ( السبلت اليدوي ) و ( الحب ) الذي كان يستخدم لتصفية المياه وتبريدها قد اصبحت مألوفة في بيوتنا لأهميتها في مواجهة موجات حر صيفنا القائض ، فان (الطشت ) بأنواعه المعدنية والبلاستيكية اصبح امير موسم الشتاء ، حيث عادت تجارته في بلادنا الى الازدهار رغم دخول العالم الالفية الجديدة . اذ غزت اسواقنا مختلف انواعه المستوردة لتشكل جزء من ظاهرة الاغراق السلعي التي ينوء تحت وطء شدتها اقتصادنا الوطني ، فضلا عن المصنع منها محليا بشقيه الاصلي والمعاد . وقد شكل ( الطشت ) الى جانب احبته ( الجولة ) والقدور ومختلف الاواني الاخرى منظومة متكاملة لأغراض الغسل والاستحمام في اعقاب القرار التاريخي لإدارة الكهرباء بإحالة السخانات الكهربائية الى التقاعد واخراجها من الخدمة ليس بسبب تجاوزها السن القانوني ، بل لضعف فاعلية برامج وزارة الكهرباء التي اسهمت من دون قصد بتفعيل عناصر الفولكلور العراقي الذي يعاني مشكلة اندثار كثير من عناصره بسبب الاهمال . ولا اريد ان اطري هذه المنظومة العملية ،ولاسيما شيخها ( الطشت ) ، فحسبي اضطرار جارتي البدينة ام فرح الى تشغيل ( جولتها ) يوميا منذ الصباح الباكر وحتى اخر ساعات الليل من اجل تسخين الماء بسبب حاجة الجولة الى وقت طويل لرفع درجة حرارة الماء نسبيا وجعله ملائما للاستخدام نتيجة تدني كفاءتها ، فضلا عن ابتياعها احدى اقدم عناصر موروثنا التي يندر التعرف عليها من اغلب مكونات جيلنا الحالي وهي ( السلبجة ) التي تستخدم لغسل اليدين والرجلين والرأس احيانا . ولا اروع من منظر جارتي الودودة حين تستقبل زوجها عند عودته الى المنزل وهي تحمل طشتها وتدندن بصوت اقرب الى النحيب منه الى الغناء .... ( الطشت قلي ... الطشت قلي..يا حلوة قومي استحمي ... ) ، علها تخفف جانبا من هموم يوم عمل زوجها الذي غالبا ما يعود مكفهر الوجه ليس بسبب مشقة العمل ومنغصات الطريق ، بل لما يسمعه عن عزم ادارة الكهرباء زيادة اسعار وحداتها . وخلاصة القول أن اخفاق ادارة قطاع الكهرباء في مهمة النهوض بواقع هذا القطاع الحيوي على الرغم من اهميته في عمل بقية القطاعات ، لاسيما الزراعية والصناعية والخدمية سيسهم بخلق المناخات الملائمة لانعاش كثير من الصناعات التي اندثرت منذ سنين طويلة . ان اظهار موروثنا الوطني والمحافظة عليه من الضياع ضرورة لا يمكن تجاوزها ، لكني لا اتمنى ان يكون استذكار مفاصل فولكلورنا مناسبة للحديث عن رحيل نعمة الكهرباء ، بوصفها عصب الحياة التي لا يمكن من دونها ارتقاء سلالم المعاصرة .
• المهندس لطيف عبد سالم العكيلي / باحث وكاتب
https://telegram.me/buratha