علي بابان - وزير التخطيط السابق
لعل أخطر ما يمكن أن تقود إليه الأزمة السياسية الراهنة التي تعصف ببلدنا هو أن ننزلق بأتجاه حالة من ( إهتزاز) سلطة الدولة المركزية أو ( غيابها) في بعض المناطق و تكريس حالة الإستقلالية في مناطق معينة من العراق بما يجعل وجود الدولة شكليا رمزيا لا حقيقيا فعليا و يهيئ لنشوء سلطات و زعامات محلية تفرض نفسها في تلك المناطق لتمارس نوعا من أنواع الحكم و التسلط بدعم و رعاية من هذه الدولة الإقليمية أو تلك...النموذج ( الصومالي) ليس شكلا واحدا بل هو نماذج و صور جامعها المشترك هو غياب السلطة الواحدة القوية و شيوع الفوضى الإدارية و السياسية في إرجاء الدولة..هناك ( صومالات) عديدة في العالم العربي اليوم ففي سوريا الشقيقة (صومال مكبرة) تنز دما و ضحايا ..و في اليمن نسخة أخرى من الصومال منذ ما يزيد على العام ...و في السودان و تونس و لبنان ( اعراض صوملة) في بداياتها و هناك مخاوف أن تنتقل هذه العدوى إلى أكبر دولة عربية و هي مصر.منذ ما يقارب الثلاثين عاما و هناك بلد مسلم افريقي منتم للجامعة العربية إسمه ( الصومال) يمارس ( الانتحار اليومي) مع ذاته و يدور في حلقة مفرغة من الدم و الدمار فيما جيرانه و القوى الدولية تقف متفرجة و فيهم من يرقب المشهد و كأنه يتابع مسرحية مسلية من الدراما الممزوجة بالعنف..!!في ذلك البلد المنكوب يتصارع الأحباش و الاريتيريون و الإسرائيليون في ( لعبة أمم مصغرة) و يتلقى قادة الميلشيات (اتعابهم) على شكل شحنات من نبات ( القات) المخدر تصلهم يوميا بالطائرات الصغيرة لكي يمضغونها هم و مقاتليهم حتى ينسوا ما هم فيه من بلاء و تعاسة..!!من المؤسف أن يوجد في العراق قادة و زعماء يتمنون ( النموذج الصومالي) في بلادهم ..!! ولا تستغربوا من ذلك ابدا ، فالبعض يبني استراتجيته على تفكك الدولة العراقية و تشرذمها لكي يحظى بــ ( حلمه التاريخي) و لذاك فالدفع بأتجاه الصوملة هو في صلب مشروعه السياسي و أن إدعى غير ذلك ، و جمهورية ( ارض الصومال) هي حلمه و نموذجه المثالي ، و البعض يفضل ( الصوملة) على أن يكرس ( الطرف الآخر) سلطته على الدولة ، و هناك نفر ثالث يتمنى أن يحكم منطقته و أن يستأثر بنفطها و خيراتها ، و نفر رابع لا مانع لديه أن يكون زعيما و حاكما على ألف نفر من الناس حتى و أن قاد ذلك إلى احتراق الوطن بمن فيه..تعود بي الذاكرة إلى ما قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة أي إلى خريف 2008 ، و كنا نناقش يومها في جلسة مجلس الوزراء إبرام الإتفاقية العراقية- الأمريكية وقدم دولة رئيس الوزراء السيد نوري المالكي لتلك المناقشة بكلمة موجزة أشار فيها إلى أهمية الموضوع و تكرم علي بأن منحني الفرصة لأكون ضمن أول المتحدثين ، كانت الأجواء معادية للوجود الأمريكي بشكل واضح و هذا أمر مفهوم و مبرر بالطبع ، غير أن موقفي في الجلسة كان مفاجئا لزملائي في المجلس إذ كانوا يتوقعون مني موقفا مغايرا ..قلت..( يا دولة رئيس الوزراء ..ما من أحد يتمنى بقاء المحتل في وطنه فذلك من أصعب الأشياء على النفوس و لكن بصراحة اخشى أن يؤدي رحيل الأمريكان إلى أن تصبح بلادنا كرة تتقاذفها اقدام اللاعبين الإقليميين ، اليوم العلاقات الإيرانية - التركية في أفضل حالاتها و لكن من يضمن لنا استمرار ذلك و نحن نعرف تاريخ العلاقات السياسية بين دول المنطقة و مدى استقرارها..) ..جاء كلامي مستغربا من البعض و ربما مثيرا للإستهجان عند البعض الآخر..اخطر ما في الأزمة السياسية الراهنة هو ( انفتاحها) على المشاريع و الصراعات الإقليمية ، و لم يعد سرا أو امر مستهجنا عند الكثيرين من أن شطرا هاما من القرار السياسي العراقي يصنع في عواصم الإقليم ، كما لم يعد امرا صعبا أن تضع هذه المجموعة السياسية او الزعامة تحت هذا المحور او هذا العنوان أو ذاك..،العراق اليوم و بكل وضوح هو ساحة لتصفية الحسابات بين المحاور الإقليمية و هو في عين العاصفة الإقليمية و لا يمكن أن ينأى بنفسه عن حرائقها و اعاصيرها ، وهو رقم اساسي و صعب في معادلاتها و حساباتها .الحدث السوري أدى إلى ( بعثرة الأوراق على الطاولة العراقية) وما سيحصل في بغداد مرتبط تماما بما سيحدث في الشام ، اطراف الصراع هي ذاتها و مادة الصراع عينها ، التفاهم الإيراني - التركي الذي قاد إلى تشكيل الحكومة العراقية الحالية صار شيئا من الماضي و علاقة انقرة و طهران التي اتسمت بالتنسيق و التفاهم طيلة السنوات المنصرمة تحولت إلى حالة من الصراع المعلن في سوريا و الذي امتد شرره إلى العراق ، سواء نجحت جهود سحب الثقة من السيد نوري المالكي ( وهو أمر يبدو بعيد الاحتمال ) أم لم تنجح ، فالضغوط سوف تستمر لأن هناك معركة مشتعلة في الشام لم تحسم بعد ، كما أن هناك معركة أكبر منها توشك أن تبدا و أعني بها مواجهة الغرب مع طهران بخصوص برنامجها النووي و العراق احد ساحات المواجهة الرئيسية فيها سواء اكان ذلك من قبل الغرب ام من قبل المحور التركي - الخليجي.نحن نعيش حقبة من حقب الصراع الفارسي العثماني على ارض العراق و التاريخ هنا يعيد نفسه بأوضح ما تكون الصورة و كأن ثلاثة قرون مرت لم تمس المعادلات الداخلية العراقية بشيء فها هي القوى الغربية التي احتلت المنطقة ترحل ليسقط العراق مجددا في ساحة الصراع الفارسي العثماني و ليدفع الشعب العراقي مجددا اثمان ذلك الصراع .اذن نحن لسنا في نهايات الأزمة بل ربما في بداياتها و معركة سحب الثقة عن السيد نوري المالكي رئيس الوزراء ليس سوى احد فصولها البارزة لكنها بالقطع لن تكون اخر الفصول...فالعراق كان احد هدايا الغرب و مغرياتها لطهران لكي تتخلى عن طموحها النووية و يوم يثبت العكس فأن الدور الإيراني في العراق و كل ما يرافقه من إمتداد و إمتيازات سيكون عرضة للمراجعة و إعادة النظر.لا اضر على أمة من الأمم من ( دوامة الفوضى) و للحقيقة فأننا لم نغادر منطقة الفوضى منذ عام 2003 و لحد الآن و حتى قبلها كان مصير الدولة العراقية محفوفا بالخطر و اليوم مع الصراعات الإقليمية المحتدمة و الوضع الدولي مع طهران يبدو العراق ساحة محتملة للعديد من السيناريوهات الخطرة و منها ( الصوملة) و التي هي بالقطع السيناريو الأخطر و الأكبر كارثية ..رغم قتامة الموقف فأن العراقيين هم أسياد اللعبة كما يقولون و تقع على عاتقهم مسؤولية إخراج وطنهم من هذا المأزق و تأمينه من هذه المخاطر ،و تحرير ارادتهم السياسية من التأثيرات الإقليمية و الذين اصطلح عليهم بــ( النخبة السياسية) رغم ( التساؤلات حول إستحقاقتهم لوصف النخبة) مطالبون أكثر من غيرهم بإداء هذه المسؤولية..العراق في دائرة الخطر المحدق و المعركة السياسية الداخلية فيه لن تكون الأخيرة و عين الجميع اليوم في العراق و الإقليم على الشام و ما سيحدث هناك سيتوقف عليه الكثير عندنا ... و ختام المعركة في الشام يعني بداية مرحلة جديدة من الصراع الداخلي في العراق ..و الأيام القادمة هي التي ستثبت أو تنفي صحة هذا الرأي.
https://telegram.me/buratha