المقالات

قراءة في (شهادة سجين رأي زمن جمهورية سجناء الرأي البائدة) للدكتور عبد الهادي الحكيم

855 15:46:00 2012-06-21

عبد الامير الصالحي

وأما عبد الهادي ، فقد طال به السجن وتعاظمت عليه مرارته فقرر ان يتحرر وان يتنفس شعرا ، حمل ايمانه العميق وأهل بيته الأكرمين وشهداءه الميامين ورفاقه الطيبين وذاكرته المجرّحة وأحلامه المشروعه وعراقه العريق الى الشعر". بهذه الكلمات اجمل لنا العلامة الباحث السيد هاني فحص في مقدمته لكتاب ( على بوابة النزع الاخير للدكتور عبد الهادي الحكيم ، (شهادة شاعر وسجين رأي زمن جمهورية سجناء الرأي العراقية البائدة ) ، تلك الشهادة الحّية التي ازيح عنها الستار اخيرا من قبل شاعر عاشها يوما بيوم ولحظة بلحظة من داخل سجون صدام المرعبة ، والتي فيها كان النفس الشعري يرتقي سلمه عند شاعرنا وأديبنا لتخلق لنا تلك القضبان قريحة صاغت لنا الواقع المأساوي نغمة شعرية مرهفة. والقارئ لـ - الشهادة - يجد ان حياة الشاعر الشعرية مرت لديه بمرحلتين : الاولى قبل السجن والأخرى اثناءه ، وفي هذا يقول الحكيم في ص 11 (ولم أحلم يوماً - وأنا أقضي سحابة ليلي ونهاري في القسم الانفرادي منه - أن يهيج بي الشوق لأعود الى غواية عشقه ثانية ، بعد أن هجرته كل هذه المدة المديدة ، رغم ولهي بقراءته، وتهيامي بسماعه ، و ولعي بحفظه ، وطربي بإنشاده ، ولإنشاده ، فقد هجرت كتابة الشعر وأنا بعد في سنوات المراهقة الأولى ) ، ويبدو ان سنوات السجن كانت قد اخذت مأخذا من حياة شاعرنا حتى عاد الى ( غواية الشعر ) ثانية ، ولم لا ، وهو الذي اقتيد مع سبعين من عائلته في ليلة واحدة شيبا وشبابا واطفالا ، لا لذنب الا لان النظام البائد لا يستسيغ وجودهم. ورغم ان ( شهادة الشاعر ) لم يأت بها إلا بيت شعري يتيم ، إلا انها جاءت قصة شعرية وصفية دقيقة مسبوكة بأسلوب ادبي رفيع يصل الى القلب بأقل جهد وأيسر الطرق. حيث حمل الكتاب في طياته صورا وصفية دقيقة للسجن وظروفه بما في ذلك جدرانه وقضبانه مرورا بوجبات الطعام حتى اغطيته ، وهاك اسمعه واصفا حال جلسائه من اخوته وأبناء عمومته في غرفة السجن ،ص 13 حيث يقول :(وسط غرفة محشوة بعشرات من أجساد أقاربي، و لداتي ، وأحبابي ، وأترابي، وخلصائي ، وجلسائي، الذين تتراوح أعمارهم بين من لم يبلغ الحلم منهم بعدُ ، وابن الثمانين ، مُعَلَبين بين جنبات أقفاص مختومة بغلظة ، وممهورة بفضاضة ، طوال ساعات ليل كئيب ، لا تفك الأقفال فيه تحت أي ظرف ... غرفة تعشعش في أغطيتها القذرة المستهلكة مجاميع القمل ، وجراثيم الجرب ، وأكداس الغبار المتجمع ، مصحوبة بروائح عرق معتّق، و مختومة بإفرازات سوائل أجساد بشرية ). وانظر الى الصورة التي يرسمها لساعات السجن اللعين ص 19 يقول :(فلطالما أوقعنا في حبائله قلق يتوهج صعوداً ، كلما صرّت أغلال قفل ، لحين ما نطمئن أن الغرض من فتح المغاليق لم يكن لاستدعاء بريء منا لتعذيب جسدي شديد ، ولطالما جثم على صدورنا خوف خانق متى ما تناهت الى أسماعنا وقع أقدام حرسيٍّ، لحين ما نطمئن أن الغرض لم يكن إلاّ لجلب وجبة طعام بلا طعم ، خاصة بعد أن أعدم منا فسقط صريعاً ، خلالها ، في باحات وغرف الشعبة الخامسة من مديرية الأمن العامة من أعدم ، واعتل منا تحت جور التعذيب في قواطعها وزنازينها الانفرادية وغيرها من اعتل ...هكذا كنا نتبادل عذابات نومنا، قلقاً وتوجساً وخشية من الآتي كل آن ، تبادلناها وقوفا لساعات ، نرفع رجلا ونحط أخرى، على أمل أن نتذوق طعم نوم نافِر ، مستفَز ، قلق، مسهّد بلذع حصف حارق ، وحكة قمل قارص ) ص 22. ورغم تعدد الصور الفنية لحياة السجن التي اولدت شاعرنا مرة اخرى ، فلم نقف الا على صورة يتيمة لزيارة مشؤومة قام بها المجرم - علي كيمياوي- كما يحدثنا في ص 27 ، وكنت اتمنى ان يسلط الضوء على مثل هذه الاحداث لتكتمل الصورة اكثر لشهادة حيّة قل نظيرها في تاريخ العراق الحديث ، ولاسيما من شاعر قضى دهرا من سني عمره في غياهب السجون الصدامية. وفي العودة الى الديوان او بالأحرى الى كيفية ولادة الديوان يغمرنا شاعرنا هنا بالعديد من الصور المأساوية الشاقة على صاحبَها متنقلا من مأساة الى مأساة تجمعت وتآلفت حتى افرزت لنا هذين الديوانيين الذي ولدا من رحم المعاناة ، ابتداءا من ( الكتابة على علب السجائر الفارغة ) ص 45 حتى ( الكتابة على الهواء ) ص 57 ، و على ( مرآة الحب) ص 62 ، وما صاحب خطوات التدوين من عمليات كر وفر بين السجين المرهف والسجان القاسي ، وقد لخص صاحب الشهادة ذلك بعنوان ( غارة الجهل على حدائق العلم والشعر) وهنا يقول ص50 (لقد كان يتحتم عليَّ، وأنا تحت ضغط نوبات دهم مباغت من قبل مسؤولي الأمن ، أو عتاة الشرطة السرية لغرفتنا، أن أبادر إلى إتلاف ما كتبت ، وتقطيع ما دبَّجت ، وأنا أضجّ ألماً وحرقة على ما أفعل وفعلت ، متعجباً أحيانا من قساوة قلب الشاعر ، وهو يقدم تحت ضغط لا يحتمل على إتلاف قصيدته بنفسه ، مستذكرا فِعْلَة الشاعر العربي الإسلامي (ديك الجن) ، وهو يُقْدِم - ساعة أن جن جنون حُبِّهِ - على قتل معشوقته الجميلة بيده ) . وتابع (بيد أن ما حز َّفي نفسي أكثر من سواه مما سبقه ، إقدامي - أنا عامداً وبيدي المرتعشة التي كتبت بها قصيدتي نفسها - على تقطيع بِضعتي ، قصيدتي / الطفلة الشهيدة ، تلك التي أحببتها ، وتولّهت بها منذ ولادتها ، والتي لم أكد انتهي من صياغة نصها توّاً لأقبرها ، حتى كأنها ولدت لتوأد في مهدها ، لا لتقرأ). وبعد تكرار قصص الاخفاء القسري لقصائده حانت ساعة الفرج لعصارات القلب المكتوى - القصائد - بان ترى النور خلف اسوار السجن و الفضل في ذلك يعود الى عائلته وابنيه الذين جازفوا لاجل هذا السبيل حتى تحقق ماكان لم يخطر له بأحلام المنام واليقظة ، حيث وجود ديوانين شعريين مرا بمخاض عسير حتى ولدا بعد اربع سنوات من الاحتجاز ، يقول الكاتب ص 65 (بلى لقد حصل ذلك ، وحصل أيضا غيره ، زمن حصوله ، وإن اختلف معه في التفاصيل، يوم قدر لي أن ألتقي بزوجتي وولديّ (يسار ومحمد) وأتبينهما بعد فراق ممض قاتل، حيث استجمعت شجاعتي كلها، فعرضت عليهم - وأنا مشفق - مهمة حمل قصاصات قصائدي تلك التي كتبتها ، وأعددتها ، على أمل تهريبها ، لاحقا ، متى ما تهيأت لي وسيلة لذلك ) ، واضاف (لقد تجشموا عناء المخاطرة بأرواحهم وحملوها ، فنجحت محاولتهم ، ثم بعد أن تعددت المواجهات الدورية ، مُخفية معها - تحت طبق الرز الساخن ، تارة ، أو بين خبايا الملابس المطوية بعناية ، أخرى - قَلَمَ رصاص ممنوعا ، أو أوراق دفتر مدرسي عتيق ... وإذ تكثَّرت المواجهات الشهرية لأسرتنا ، وتطورت معها ، وتبعاً لها ، تقنيات تهريب شعري السرية الى خارج السجن- متخذة طرائق شتى ، وآليات متعددة - ارتأيت ، حينها ، زيادة في التمويه، على أجهزة الشرطة السرية، ومخبري الأمن وجواسيسه ) ص 76. وهكذا كتب لشاعرنا ان يرى النور ديواناه الذين سطرهما بنفثات قلب موجع مصحوبة بعاطفة جياشة تحكي لظى سنين من الاعتقال ارفق بهما شهادته في طبعتي الديوان الاولى والثانية وفي هذا يختم قائلا :(هذه هي حكاية كتابة مجموعتيَ الشعريتين : (وردة حب الله) و (تراتيل في أحباب الله) اللتين أتشرف اليوم بوضعهما بين يديك ، لتكونا شاهدا على عذابات ماضٍ حي لا يُفارِق ، وإن بدا أنه فارق ، ولا يَقْدُم ، وإن ظُن أنه قَدُم ). لمراجعة الكتاب

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك