( بقلم : جاسم فيصل الزبيدي )
فرق كبير بين أن تسمع بعشرات القتلى والجرحى،وبين أن تراها مقيدة الأيدي ومعصوبة الأعين وعليها آثار التعذيب ومصابة بأعيرة نارية ، البعض منها محزوزة المنحر أو ممزقة الأشلاء ومتفحمة نتيجة انفجار سيارة مفخخة..
الحزن في الأولى لا يتعدى السمع ونطاق الرواية،أما في الثانية ـ والعيان شاهدٌ على نفسه ـ فلا يسعك إلا إن تقف ملجماً بالحزن والأسى لهول المنظر وبشاعة الجريمة ووحشية الحدث. إنها مشكلة العنف المسلح وأنفلونزا التراث العلمائي المريض التي انتقلت عدواها إلى أجيالنا الحاضرة منذ عقود من الزمن حتى تراكمت الأحقاد والضغائن جيل بعد جيل لتصبح جبالاً لا تحطمها هزات أرضية أو صواعق سماوية..لأنها ببساطة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من تاريخ أناس يرون من حولهم على أنهم خصوم عقائديين..ناهيك عن الدور الخطير الذي لعبته سياسة الحكام وفراعنة العصر في تأجيج روح الحقد والكراهية لدى أبناء هذه الأمة من خلال تقريب هذا المذهب وإقصاء ذاك المذهب وملاحقة أتباعه دينياً وقضائياً بحجة أنهم أعداء للدين والوطن.لقد تم التنبؤ بمشكلة التكفير من أعلى مستويات القيادة الإسلامية من قِبل الرسول الأعظم(صلى الله عليه واله)وهو احد الأنبياء الأربعة المشهورين بتنبؤاتهم المروعة وما سيجري على أممهم من ويلات ومصاعب في المستقبل البعيد،وقد كانت تلك التنبؤات عبارة عن كابوس تحقق في عصرنا الحاضر..إذ روت المصادر التاريخية روايات عديدة عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) تكشف حجم الخطر المحدق وما سيجري وقد حذرت هذه الروايات الأمة من علماء يتجللون بجلباب الدين يتأولون بالقران بحسب ماتملية مصالحهم الشخصية وإنهم ـ بحسب تعبير ابن عمر ـ(إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين) وبحسب تعبير ـ ابن عباس :ـ(تأولوا آيات القرآن في أهل القبلة، وإنما أنزلت في أهل الكتاب والمشركين، فجهلوا علمها فسفكوا الدماء وأنتهبوا الأموال) وان مايحدث فتنة كقطع الليل المظلم أصلها من جهة الشرق.
إن الدلائل التاريخية المتوفرة تشير إلى إن الفكر التكفيري كان اقل نضجاً وأدنى مستوى واقل عنفاً بعبارة أخرى بدائي النزعة يحمل فكراً طفولياً لم يستوعب حدث الساعة بروح النص المتكامل في مرحلة(مابعد صفين)..بدليل إن اغلب المنضوين تحت لواءه آنذاك قد تراجعوا عن آراءهم بعد المناظرات الكثيرة والتي استمرت بحسب المصادر التاريخية ستة أشهر بين أصحاب الفكر التكفيري الطفولي وبين الإمام علي(عليه السلام) وأصحابه...وسواء كان عدد المتراجعين كثيراً أم قليلاً فان الأسلوب الذي مارسه الإمام علي(عليه السلام) وأصحابه هو التصرف بحكمة دبلوماسية ومرونة سياسية لتحقيق أفضل المصالح العليا للإسلام في توعية الجماهير من ضبابية شعار( لا حكم إلا لله)..فمسؤولية الحاكم أو القائد ليس اتخاذ قرار الحرب وإنما المحاولة الجادة في نشر الوعي بين الجماهير بسعة الأفق ورحابة الصدر ..لان استخدام لغة الحرب كبديل دائمي عن الدبلوماسية بشكل مفرط قد يؤدي إلى نتائج عكسية واحتقانات مستقبلية لابد أن تطفو على السطح عند الفراغ السياسي والأمني.
وبالرغم من دبلوماسية الإمام علي(عليه السلام) وأصحابه والمرونة التي أبدوها اتجاه أصحاب ذلك الفكر، إلا إن البعض ظل مصراً على رأيه وحاول تغيير مفرداته ولغته لكسب الوقت لإعلان الحرب ضد جيش علي وأصحابه..بيد أن زعماء ذلك الفكر لم ينتظروا طويلاً فارتكبوا غلطتهم الإستراتيجية بالإعلان الحرب الطويلة الأمد على المسلمين والتي فتحت باب الشر على مصرعيه إذ(مرت الخوارج في المدائن فالتـقوا واليها صاحب رسول الله(عبد الله بن خباب)،فأسروه مع زوجته الحامل، ووجدوا في عنقه مصحفاً فقالوا له:إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا إن نقتـلك، فكان رده عليهم إن يحيوا ماأحيا القرآن، وان يميتوا ما أمات. ثم سألوه عن أبي بكر وعمر ؟ فاثني عليهما خيرا وسألوه عن عثمان في أول خلافته وآخرها، فجعله محقا في أولها وآخرها، أما عن الإمام علي (ع) قبل التحكيم وبعده، فأنه قال لهم:انه اعلم بالله منكم واشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة » فقالوا:انك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها والله لنقتلك قتلة ماقتـلنا أحدا..فأخذوه وكتفوه ثم اقبلوا به وبامرأته وهي حبلى. فأضجعوه فذبحوه ـ كما يُذبح الكبش ـ فسال دمه في الماء واقبلوا إلى المرأة فقالت:أنا امرأة ألا تتقون الله ! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طي، وقتلوا أم سنان الصيداوية).لقد نقل أصحاب الفكر التكفيري ـ بحسب هذه الرواية المؤلمة ـ فكرهم من مرحلة الطفولية والضبابية إلى مرحلة الرشد الإجرامي السفسطائي من خلال زج اسميّ (أبو بكر وعمر)في القضية كنموذج لأهداف أعمق وأوسع ..وإلا فما علاقة الرجلين بموضوع خلافهم مع الإمام علي(عليه السلام)..؟!
برائي الشخصي إن زج اسميّ أبو بكر وعمر في القضية كان يهدف إلى إضفاء الشرعية على فكرهم وكسب التعاطف الجماهيري معهم ومع أيدلوجيتهم وهذا ماسهل على زعماء التكفير إن ينطلقوا من اسمي أبو بكر وعمر والالتفاف حول النص في نشر أفكارهم والتأثير بشرائح كبيرة في المجتمع من خلال الخدعة القديمة (لا حكم إلا لله)(فهم يرون وجوب الأخذ بما يفهم من اللفظ الوارد والتقيد به بدون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين)على حد تعبير الشيخ المرحوم محمد عبده(رحمه الله).
إن الفكر التكفيري استمر بفلسفته الهجومية على خصومه العقائديين وبرز كقوة لايستهان بها أبان العهدين الأموي والعباسي من خلال اتخاذه أشكالاً ونظماً تتناسب مع معطيات المرحلة التي يمر بها وقدرته على امتصاص صدمة الهزيمة وقدرته على إعادة تنظيم صفوفه بشكل جيد..فعلى الرغم من قسوة المطاردة والحرب طوال عقود من الزمن مازال يتمتع بروح المطاولة وهذا مانستشفه من كلمة الإمام علي(عليه السلام)فيهم:(لو لم يبقى من الأمة إلا ثلاثة لكان احدهم على رأي هولاء..أنهم في أصلاب الرجال وفي أرحام النساء).إذن فالقضية لا تختص بالخوارج وإنما (المصيبة إن بعض المتحدثين في الإسلام لديهم مقدار هائل من قصر النظر وقلة الوعي!والأدهى من ذلك أن يتحول هذا الفكر السقيم إلى مبدأ تؤلف فيه كتب وتبنى عليه مواقف) لتنتقل عدوى أنفلونزا التكفير بسرعة البرق إلى أجيالنا الحاضرة عبر نظرية(نحن الفرقة الناجية)والتي تلقنوا بها منذ الصغر حتى أصبحت صك الغفران وميراثاً يُعبد فيه اله الهوى وصنم الرأي..إذ المشكلة في البعض انه يثق بما في أيدي علمائه ويقف موقف المشكك بما يدي الله عزوجل ويجهل انه مريض تراثياً ويقاوم من يحاول اكتشاف العلاج له بالمخالب والدم..وهذه معضلة كبرى.
على إن السياسات التي تعاقبت على دفة الحكم منحت الفكر التكفيري أرحاماً مؤهلة للإنجاب في المستقبل البعيد من خلال زيادة رقعة الحقد والكراهية في نفوس أبناء الأمة من تقريب هذا المذهب وإقصاء ذاك المذهب ومطاردة أتباعه دينياً وقضائياً،ومن هنا فان التشابه في الظروف يولد تشابهاً في الفكر ومابينهما يصبح القتل حفلة عقاب جماعية على إيقاع الدم الأحمر.
إن الذين ولدوا في تلك الظروف الحرجة والأفكار المطعمة بالسم الطائفي ونشئوا على نظرية(نحن الفرقة الناجية)والنظر إلى الآخرين على أنهم خصوم عقائديين ،لم يعودوا طيبين يهبطون بالخير واليمن والبركة في ليلة خير من ألف شهر،لأنهم جبلوا على عدم القناعة من إن الطرف الآخر ليس خصماً عقائدياً وانه لن يحاول اكتساحه ويستأصله تماماً كما نحاول أن نقنع المؤمن الغارق في إيمانه من إن الشيطان اللعين قد بلغ به الكِبر عتيا ومن العمر أرذله لن يغويه ويسحب قدمه إلى النار.
برائي الشخصي إن محاولة إقناع الأطراف التكفيرية بالتخلي عن أرائهم الإقصائية صعب جداً بسبب ماذكرنا أعلاه..ولكن زيادة الوعي وتثقيف الجماهير من مخاطر هذا الفكر يأتي من الصغر وزرع روح التالف..على إن قيام المرجعيتين السنية والشيعية بفرز القضايا والخلافات الفقهية وتوضيح ماهو متفق عليه بين جمهور المسلمين وبين ماهو محرم ومكروه..لان مرض التكفير يستغل نقاط الخلاف الغامضة في التسلل إلى نفوس شباب الأمة.
https://telegram.me/buratha