الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
مقدمة:يقف أستاذنا العلامة علي الوردي موقفاً تحليلياً من الحدث التاريخي إلى جانب الموقف السردي، وهو ينحو في هذا الاتجاه منحى الفلاسفة أكثر مما يذهب إليه المؤرخين في العرض الشكلي لملامح الحدث التاريخي، وهو لا يكتفي بان يكون التاريخ حدث وزمان ومكان، بل انه يستعين بكل العناصر الاخرى، الاجتماعية والاقتصادية والنفسية ولا يغفل مستوى الوعي الفردي والجمعي، يخضع كل تلك العناصر للبحث والتحليل، لتكوين صورة أكثر واقعية لرسم شكل الواقعة التاريخية ويقوم بتحليل معطياتها ونتائجها على خلفية الرؤية الاجتماعية للحدث ولهذا يمكن إعتبار بحوثه أقرب للدراسات الابستمولوجية، بل هي كذلك بالتأكيد. فالحس التاريخي عند الوردي لا ينبع فقط من قدراته الفكرية في علمي التاريخ والاجتماع والمزاوجة بينهما، ولكن من موقفه التحليلي لنسيج الحدث ولانه يشعر بمسؤولية تجاه الواقع وان يكون جزء من هذا الحدث وإن تباعد عنه زمنياً، وما ذلك إلا لإدراكه أثر الانسان في صناعة التاريخ.قد يكون أبن خلدون حاضراً في ذهنية أستاذنا العلامة الوردي وهو مما لاشك فيه لولعه به، ولانه اعتبره مؤسساً للكثير من النظريات التي ناقشها الوردي أو إهتم بها. ولكننا في فهم تنظيراته لابد من مراعاة قضيتين مهمتين في سيرته: الاولى: ولادته في الكاظمية عام (1913م) من اسرة متوسطة يعود نسبها الى الرسول الخاتم (ص) في مدينة ذات خلفية دينية. مما انعكس على أدبه وأخلاقة وتواضعه مع كثرة علمه وسعة مداركه بما لا يقاس في ابناء جيله.الثانية: درجاته العلمية الماجستير (1947م) والدكتوراه (1950م) من جامعة تكساس في الولايات المتحدة. واثر ذلك في تشكيل ذهنيته التحليلية العميقة.في الواقع فان هذه الدراسة الموجزه إنما هي جزء من دراسة اوسع بنفس العنوان تناقش وتحلل المنهج التاريخي عند أستاذنا العلامة الوردي. لمئوية ميلاده.الواقع الاجتماعي للتاريخ:في مهزلة العقل البشري لا يتناول الوردي فقط الحدث التاريخي للصراع بعد وفاة الرسول الخاتم (ص) وتركيز الخلاف بين أتباع الامام علي بن ابي طالب (رض) وعمر بن الخطاب، أو احداث مقتل عثمان بن عفان، والموقف من الطبقة المترفة التي أرادت إستغلال السلطة، وهي ذات الطروحات التي عرضها في كتابه (وعاظ السلاطين). وهو لا يناقش الخلاف السياسي والعقائدي بين أطراف الحدث، ولكنه يحدد موقفه التاريخي من خلال الصراع الاجتماعي ومستوى الوعي باعتبار ان التاريخ عند الوردي تاريخ إجتماعي بالمقام الاول.من هنا نراه يعيد تقييم الحدث عبر رؤياه الاجتماعية، لانه أرادنا ان نفهم الواقعة التاريخية كما حدثت في وقت وقوعها وفق التاثيرات الفكرية والعقائدية والاجتماعية وليس وفق منظورنا المعاصر، فالمعيارية عند استاذنا الوردي تقوم على فهم الحدث وفق معايير عصر وقوعه ليتسنى لنا إدراك الجوانب الخفية فيه.ولكن هل كان الوردي متجنياً على التاريخ؟ من الخطأ قول ذلك لانه بقي متجرداً في موقفه مما اعطى لنظرته مصداقية شاهد العيان، وهو لا يغفل تأثير التركيبة التكوينية للمجتمع في صناعة الحدث وفي صياغة نتائجه حتى وإن كانت هذه النتائج غير منظورة في زمن الحدث.وهو لا يكتفي بذلك بل يطرح ويناقش العديد من القضايا التي تترك آثارها في بناء وحركة المجتمع مثل قضية البداوة والتمدن وذلك الصراع بين الريف والمدينة، وأثر التكوينات القبلية والعشائرية، وأيضا قضية اللغة والاداب والشعر، وهو يحلل تأثيرات أهتمام الخلفاء والحكام بالشعر والشعراء مما صبغ التاريخ العربي والاسلامي بهذا الاهتمام. فالشعر ليس مجرد واجهة إعلامية وفنية بقدر ما هو صفات نفسية وفكرية تعكس شخصية الافراد والمجتمعات فتحفز او تضعف مستوى الوعي وفق الاتجاه والغايات التي يتبناها الشعراء، او ما يملى عليهم من منظور يمثل رأي الحاكم أو رغباته في تحديد العلاقة بينه والمجتمع.مفهوم الشخصية:في لمحات أجتماعية من تاريخ العراق الحديث يحلل الاستاذ الوردي شخصية المجتمع عبر حركة التاريخ الحديث، وهو لايستخرج رؤياه هذه من من إنعكاسات الحوادث بقدر ما يستخرجها من تجربة الحدث وهو يستعرض الوقائع ويحللها ثم ليدون عليها أرائه، ففي الجزء الثاني يستعرض الصراع بين القديم والحديث ليستخرج منه تراكيب شخصية المجتمع وتطورات الشخصة او تداعياتها من خلال مناقشته للحوادث في عصر علي رضا باشا، ونجيب باشا وشخصية قرة العين.في الجزء الثالث مثلا يستعرض الواقع الاجتماعي في ولاية عبد الحميد الثاني وتراكمات الحدث قبيل الحرب العالمية الاولى، لكنه يركز أكثر على تأثير الحدث في تشكيل شخصة الافراد والمجتمعات، وهو يخلص الى ظاهرة (ازدواج الشخصية العراقية)، التي عرض ملامحها في محاضرة القاها عام 1951م في العهد الملكي في قاعة الملكة علياء وقتها. يقول استاذنا: " أنه لاحظ بعد دراسة طويلة إن شخصية الفرد العراقي فيها شيء من الازدواجية " وهو يعزو ذلك الى عدم تطابق سلوكه العام مع أعتقاداته، ومن هنا نرا يقول: " وأن العراقي سامحه الله أكثر من غيره هياماً بالمثل العليا ودعوته إليها في كتاباته وخطاباته ولكنهفي الوقت نفسه من أكثر الناس إنحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته ".في تقديري ان هذا الموقف فيه كثير من الانحياز أو التجني ربما لان استاذنا الوردي قد عانى نفسه من بعض سلوكيات الافراد وخاصة انه عمل في التجارة في مقتبل حياته، ولكن المهم عندنا انه يفصل بين مفهوم الشخصية بين علمي النفس والاجتماع فيقول: " وينبغي أن لا ننسى بان للشخصية مفهوما في علم النفس يختلف عن مفهومنا في علم الاجتماع وعلم الحضارة " ويضيف : " ولكن علماء الاجتماع يضيفون الى ذلك بان الشخصية في الكثير من وجوهها ممثلة للمجتمع وهو يكادون يجمعون اليوم على ان الفرد والمجتمع ما هما إلا وجهين لحقيقة واحدة ". قد نتفق مع استاذنا الجليل في تحليلاته المعمقة لكننا لابد ان لا ننسى أن هذه الاراء قيلت في مرحلة تاريخية وإجتماعية تختلف نوعاً ما عن واقعنا الحالي، مع الاخذ بالاعتبار ان الواقعي الحالي نفسه لا يخلو من هذه الاشكالات في طبيعة الشخصية التي عرضها استاذنا العلامة. حيث ان منهجنا في التحليل التاريخي يقول باهمية الحدث والواقع الاجتماعي والتاريخي لعصر وقوعه.التاريخ وحركة المجتمع:أن هذا التقارب الوثيق بين التاريخ والاجتماع عند العلامة الوردي يجعله في مصاف علماء الحضارة في التصنيف العلمي، فهو كان يرسم الكثير من الخطوط حيث يتقاطع التاريخ الحضاري مع علم الاجتماع بشكل يجعل التفريق بينهما يكاد ان يكون مستحيلاً، ويمكن القول ان نزعته الحضارية تظهر ملامحها في علم الاجتماع والعكس صحيح. وهذا الموقف لا يكشف فقط عن طبيعة علاقة العلمين ببعضهما الآخر، بقدر ما يكشف عمق ذهنية العلامة الوردي، حين يكون العمق التاريخي محركاً للعامل الاجتماعي، في حين يكون الفرد ذاته والمجتمع ككل احد عناصر حركة التاريخ لان الفرد والمجتمع عنصران متداخلان في مفهوم الوردي، وعندما نجده يركز على التاريخي الحضاري للعراق واثره على المجتمع العراقي، فلانه اراد تقديم منظور يخص التاريخ العراقي ومجتمعه ولكنه لا يختزل التاريخ في حيز الزمان والمكان المحددين، ولهذا نراه يعيد تقييم الحدث التاريخي ولكن من منظور اجتماعي، فبقدر ما يكون تسلسل الحدث مهماً فان موقعه ضمن دائرة الاحداث وتاثيراته تعكس جوانب اهميته، بل ضرورتها.وحينما يكون العراق كنزاً للإرث الحضاري فان التداعي الاجتماعي للواقع في التاريخ يشكل جزء من مفردات الحدث وقد سعى الوردي الى تجسيد هذه الفكرة في مؤلفاته بشكل عميق لانه آمن بها، واستطاع ان يعيد صياغتها مرة بعد أخرى.أما عدم فهم البعض لفلسفة الوردي الاجتماعية في حركة التاريخ فلان الوردي كشف الجانب الاخر من عناصر الشخصية وعلاقتها بحركة التاريخ وهذه النظرة العميقة كانت احدى أسرار فلسفته الذاتية في تحديد المفاهيم وأعادة تقويمها.وبالتالي فان العلامة الوردي قد تمكن من ان يحرك بركة الصمت في المجتمع العراقي لانه أدرك أنه جزء من هذا المجتمع ولم يتعالى عليه.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.ukالمملكة المتحدة - لندن
https://telegram.me/buratha