السيد حسين السيد محمد هادي الصدر
من النادر ان يخلو بلدٌ من بلدان العالم ، في اي مقطع زمني ،من ممارساتٍ ظالمةٍ مُجحفةٍ بحق بعض أفراده ، الاّ ان الفارق المهم بين البلاد الراقيه وغيرها يتمثّل في ان رقعة المظالم الاجتماعيه في البلدان المتقدمة حضارياً لاتكون كبيرة على الاطلاق ،بينما تزادا هذه الرقعة مساحةً في البلدان التي تعشش فيها العشوائيه ،ويستهان فيها بكل الاعتبارات والضوابط الموضوعيه .واذا كانت الممارسات الخاطئه واقعة لامحالة -على اختلافٍ في الاحجام والأرقام - فان المتعيّن المبادرة الى تلافي تلك الأخطاء ،والاعتذار ممن أسئ اليه ،وتضميد جراحه ، وجبر كسوره .أما الإعراض عنه ، وتركه يعيش أصعب الأزمات النفسيه ،لما انتهك من حقوقه وحرماته ،دون اعتذارٍ ،ومعالجةٍ للخطأ المرتكب بحقه ، فتلك مسألة مرفوضه بكل الموازين السماويه والأرضية ....هذا مضافاً الى ما تخلّفه تلك الممارسات الخاطئه ، من آثار سلبيه في الميدان الاجتماعي ، نتيجه الرواسب الفظيعه ، والمفارقات المريعه ...وبدلاً من تصاعد مفاعيل تلك الرواسب ،يأتي الاعتذار ، والاعتراف بالخطأ وتصحيحه ، بلسماً للجراح وبداية لمرحلة النسيان والارتياح ..الشاهد التاريخي :لقد حدثنا المرحوم الاستاذ عبد المجيد محمود - الوزير في العهد الملكي بالعراق 1909ـ1992 - في مذكراته التي طبعتها دار الحكمة عام 2006 ، والتي أعّدها وعلّق عليها وقدّم لها د. عماد عبد السلام رؤوف، عن تجربة مرّه عاناها في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي -1935-يوم كان مديراً للمعارف في "الناصريه" ،وكان حريصاً غايه الحرص على النهوض بكل ما تتطلبه المسؤولية من مهام في نشر العلم وصيانة الأخلاق والقضاء على الجهل والتخلف ويذكر ان رشيد عالي الكيلاني ، -وزير الداخليه آنذاك - قد زار الناصرية، واجتمع بالمتصرف ، وببكر صدقي الذي كان قد ارسل للناصريه للقضاء على ثورة العشائر ويقول : (وقد مدحني أمام المتصرف وبعض الموظفين ) ص273 وقال (اي الكيلاني) :(اذا كانت هناك أمور تحزنني وأنا أقوم بهذه الجولة، فهناك أمور تسرني، لقد وجدت الموظفين يقدرون مسؤولياتهم ويخلصون للحكومة ، ويسرني أن اجد مدير معارف اللواء وهو شاب مثقف يشارك الحكومة رأيها ويساهم بأعمالها ) المفاجئة الغريبة الا ان المفاجئه الغريبة كانت اعتقاله بعد ساعة من مديح وزير الداخليه له ...!!!قال له مدير شرطة الناصريه .(لم أشاهد طول حياتي شيئاً عجيباً مثل الذي شاهدته ،لقد امتدحك وزير الداخليه ، ولكنه وهو يهّم بترك لواء الناصريه أصدر أمراً بضرورة توقيفك ) ص 274 وسأل عبد المجيد محمود مدير الشرطة :"هل انت متأكد ؟هل يجوز هذا وقد سمعت أنت كيف مَدَحَني الوزير قبل ساعة ؟هل يخطر على بالك أنَّ مثلي من يُوقّف ؟هل علمت شيئاً ؟وماذا عساي أن أعمل ؟هل ارتكبت ذنباً ؟وماذا عساي أن ارتكب ؟ " ......وهكذا اقتيد مخفوراً من "الدائره" الى الموقف ثم يبدأ بسرد وقائع مالاقاه وعاناه ،في ذلك المشوار المضني، حتى انتهى به المطاف ،سجيناً محلوق الرأس بالموس (..) لابساً ملابس مصنوعة من قماشٍ يُشبه قماش الجنفاص (الكواني) في القلعه ببغداد ،ورفضتْ وزارة العدليه الذي كان يشغلها وزير الداخليه رشيد عالي الكيلاني، اعتباره سجيناً سياسياً ص 310 فْقُيدتْ رجلاه بالسلاسل، وجرى عليه ما يجري على (المجرمين العاديين كاللصوص والقتله) ..!!!كما حرم من القراءة ومن الكتابه ، فلا قلم ولا قرطاس .... العفو العامان السيد رستم حيدر -وزير البلاط- كان يحث الحكومة كل يوم على اصدار عفو عام وبالفعل صدر القانون واعتبر نافذاً من 8 أيلول 1935 ، وبالفعل فقد أطلق سراحه في هذا التاريخ ،ثم أُضِيفَ الى حماقه زجّه في السجن، فصلُه من الوظيفة ، ولم يُجْدِ الاعتراض على قرار الفصل حين رفعه الى مجلس الانضباط العام .وهكذا تُرك ليواجه أزمة البطالة بعد أزمة السجن الخانقه .ثم لاحت نسائم الفرج ولا تخلو أجهزه الدولة ومؤسساتها من عناصر مخلصة تستهدف تقويم الأوضاع والانتصار للقيم الموضوعيه .انّ هذه العناصر المخلصة هي صمّام الأمان، في حالات الاختلال ، والاضطراب ،والاعتساف ،والاجحاف .لقد زار المرحوم عبد المجيد محمود ذات مرّه صديقه المرحوم عبد الكريم الأزري - وكان يومها معاوناً لرئيس الديوان الملكي - فقال له :ان رستم حيدر يرغب في مواجهتك ، ثم خرج من غرفتِه الى غرفة رئيس الديوان ثم رجع وقال :تفضّلْوبالفعل استطاع عبد المجيد محمود ،عبر هذا اللقاء ،ان يُقنع رستم حيدر ببراءته وظلامته ،وأكدّ في حديثه انه يتحمل التضحيه الشخصيه في سبيل الصالح العام .وما كان من رستم حيدر الا الاتصال الهاتفي برئيس الوزراء ياسين الهاشمي قائلاً :" باشا عندي عبد المجيد محمود ،مدير معارف لواء المنتفك، وقد قصّ عليّ قصته ، وكم كنت اتمنى لو كان فخامتكم يسمع الى هذا الحديث من وراء جدار أو ستار لتقدّر روحية هذا الشاب وتفكيره الطيب .... أرجوك ان تستدعيه لتسمع قصته أنت بنفسك (ص329)ثم قال رستم حيدر لعبد المجيد محمود : "اذهب فان الباشا في انتظارك "وحين ذهب ، قال الباشا :"قصّ عليّ قصتك ان رستم قد أعجب بك ،فقصصتُ عليه ما قصصته على رستم، ثم رفع راسه وقال :اسمع يا مجيد انني على علم تام بقصتك ، وأنا عندي كل الوثائق والمستمسكات التي تثبت براءتك ،ولكنك تعلم كم تخطئ الثورة، وكم تجور ،وكم يذهب ضحيتها من أبرياء وأملي بثقافتك العاليه ،واخلاصك للوطن، ان تتحمل هذه التضحيه الشخصية في سبيل الصالح العام ..!! ))قال عبد المجيد :( باشا ان ما قلته لي هو خير شهادةٍ على براءتي ،وما أتيت هنا لأي سبب الاّ ان أسمعك صوت الحق وأسمع من فخامتكم صوت العدل والانصاف ) ص330 يقول عبد المجيد :(ثم أخذني في سيارته الى وزارة الماليه ، وأدخلني على وزير الماليه وقال :رؤوف أرجع مجيد الى وظيفته في وزارة الماليه )والمقصود برؤوف : المرحوم رؤوف البحراني وزير الماليه في وزارة الهاشمي أقول :انظر الى الاهتمام الملحوظ من قبل الديوان الملكي ،ورئاسة الوزراء ،في اسدال الستار ، وبشكل سريع ،على مظلمة المرحوم عبد المجيد محمود والتصريح ببراءته من كل ما نسب اليه ، وارجاعه الى وظيفة مرموقه يستحقها ، اعتزازاً بكفاءته وقدراته وهذا هو الجبر الحقيقي لتلك الانكسارات المتعاقبه، التي عانى منها الاستاذ عبد المجيد محمودوالمؤسف للغاية أنّ الكثير من المسؤولين اليوم، يأنفون من الاعتراف بالخطأ ،ولا يبادرون الى تصحيح الأخطاء ،والاعتذار ممن وقع ضحيتها ، وهم بذلك يسيئون الى الدولة أولاً والى أنفسهم ثانياً ،والى ضحايا الممارسات الخاطئه ثالثاً ، وهم في ذلك ملومون ومواخذون أخلاقياً وانسانياً واجتماعياً وسياسياً ودينياً ....اننا اليوم أمام قوافل ضخمة من المواطنين ممن اسئ اليهم ،أو حرموا من مستحقاتهم ،نتيجة الاهمال وتراكم التقصير، دون ان يسمعوا كلمة واحدة تعيد الى أنفسهم الثقه بان هناك من يحرص على العدالة وتجنب الاصرار على الخطأ ..!!وهنا نكرر النداء ونقول :ايها الممسكون بزمام الأمور الله الله بالمواطنين ، وفي انصافهم ،وخدمتهم ،والحرص على تيسير أمورهم فانها العبادة الاجتماعيه انّ خير الناس مَنْ نفع الناس ، لامن تفنن في الاستعلاء عليهم ،وأطال معاناتهم وجرّعهم الغصص ان مناصبكم لاتدوم لكم ، ولكّن مواقفكم النبيلة لا تنمحي من الذاكرة .
https://telegram.me/buratha