علي بابان وزير التخطيط السابق
أعتذر إبتداءا عن العنوان الذي قد يوحي للبعض بالتشكيك فيحقيقة وحدة المجتمع العراقي، وحقيقة وجود السمات المشتركة فيه، وبالطبع ليس هذاهدف المقال بل العكسُ تماما هو ما نريد إثباته من خلال إثارة نقاش عام حول عناصرالتوحد والإنقسام في هذا المجتمع، وهو الموضوع الذي بات الإنحراف في فهمه يقود إلىإستنتاجات خاطئة ومواقف سياسية وفكرية مغلوطة على الصعيد الوطني...
بإمكان من يعترض على العنوان أن يعتبره من صنف"الإستفهام الإنكاري" الذي يتكرر كثيرا في القرأن فبلاغة اللغة العربيةتسعفنا بصيغ وأساليب تتيح لنا التعبير عما نريد، وإيصاله إلى القارئ أو السامعبأبلغ وأجمل ما يكون...
قبل عقد أو عقدين من الزمان ما كان متاحاً لنا أن نطرحتساؤلا كهذا في ظل مناخات فكرية وسياسية معروفة، ولكننا اليوم في وضع مختلف،فالمسائل العامة تطرح للنقاش في أجواء من الحرية حتى لو كانت من قبيل الثوابتوالبديهيات عند البعض، وهي منهجية سليمة تتيح إزالة الغموض حول القضايا الكبيرةوتأصيلها وتبيان تفاصيلها وملامحها بما يعزز الإيمان بها، ويحيلها من إيمان عاطفيمستند للمشاعر المتوارثة إلى قناعة راسخة قوامها الفكر والإدراك، ولعل الدافعالأكبر في طرح مثل هذا التساؤل عن وحدة المجتمع العراقي اليوم يتمثل فيما نراه من تركيزكبير على موضوعة "الإنقسام والصراع" فيه، والذي إنتقل ليصبح مطالبة"علنية أو خفية" بتفكيك الدولة وتقسيم المجتمع بدعوى أن الشركاء فيالبيت العراقي صاروا يضيقون ذرعا ببعضهم وأن عيشهم المشترك صار ضربا من الخيال...
يتعين علينا أن نقر بأن التساؤل عن وجود مجتمع عراقي واحدناتج عن الظروف السياسية والإجتماعية التي نرزح تحتها، وأنه متولد عن المشهد الذيإنتهت إليه الأوضاع العراقية...
هذا المشهد الإنقسامي والمتشرذم بقتامته قد يقود إلىإستنتاجات ومواقف خاطئة ربما يتسرع لها البعض...
لا شك أننا نعيش "زمنا صعبا" ، وأن العراق اليومفي "حالة مفاصلة" تاريخية وإجتماعية، وهذا يستفزنا لكي نتعاطى مع هذهالنقاشات من خلال حقائق التاريخ، وعلم الإجتماع، وذلك لإسقاط وتفكيك المنطقالإنقسامي، وهز أسسه النظرية والفكرية، ذلك المنطق الذي بات يشكل تهديدا علىمستقبل الدولة، ومصير الملايين من أبناء العراق الذين يراد أن يقذف بهم إلى أفقمجهول من التشرذم والصراع...
إن التساؤل الذي جعلناه عنوانا لهذه المقالة قد يقود إلىبعض التضليل في فهم المسألة.. إن السؤالين اللذين يتعين طرحُهما هنا: ... كم هيعناصر "التوحد" و "الإنقسام" في المجتمع العراقي ...؟؟ وهلمستوى وحجم التنوع الثقافي والإثني في العراق كبير لدرجة تجعل من الصعب أن نقولبوحدة المجتمع فيه...؟؟
إننا هنا لا نتحدث عن "أوصاف حدية" أو "أسود وأبيض.." ... " يوجد مجتمع أو لا يوجد..." فالمسائل نسبية ،وبقدر ما نعتصم بالمنهج النسبي تتوفر لدينا الموضوعية والإصابة في تحقيق الهدف...
هذان التساؤلان في الحقيقة يمثلان أصل الموضوع ومنهجيةالبحث السليمة فيه... عناصر التوحد والإنقسام... والتنوع الثقافي والإجتماعي...
علم الإجتماع يحدد بوضوح العناصر التي تجعل من التجمعاتالبشرية "مجتمعا واحدا"، والأمر هنا نسبي أيضا، بمعنى أنه بقدر ما توجدهذه العناصر يوجد التوحد والعكس صحيح،... فالعيش في حيز واحد "الوطن"... والتشابه العرقي واللغوي... والذاكرة التاريخية المشتركة بألامها وأمالها...ومنظومة القيم المتشابهة ... والعقيدة الدينية المشتركة... هي وغيرها تصنع مجتمعاواحدا ... وجاء لاحقا نشوء الدول "الإطار القانوني للمجتمع الواحد"ليزيد سرعة التفاعل التي تقود إلى نشوء المجتمع ذات الخصائص المشتركة حيث أفرادهيعيشون تحت ظل تنظيم قانوني واحد، ويواجهون أو يحملون نفس الأجندة الوطنية، ومايتولد عنها من تحديات وطموحات... صارت الدولة "بوتقة إنصهار" ،و"مصنع إنتاج" المجتمعالواحد...
وإذا كانت الدولة بمفهومها المعروف وبنماذجها البدائية قد إرتبطت بمفهوم التحضر وبزوغ فجر الحضارةالإنسانية جاز لنا أن نثبت وبلا أي تردد أن بلاد ما بين النهرين شهدت قيام أولالدول أو التنظيمات الإجتماعية، وذلك إستدلال طبيعي لا غبار عليه تؤكده وقائعالتاريخ، ويعتبره دارسوا الحضارات من البديهيات.
إذن نحن أمام تسلسل منطقي متماسك... أول الحضارات تقود إلىأول الدول، وهذه تصنع أول المجتمعات بالمعنى المتعارف عليه لمصطلح"مجتمع"، وتسرع في إنضاجها، ومنحها سماتها المشتركة...
معنى ذلك أن العراق ... الوطن ... والأرض... شهد أول"المختبرات" التي تنتج المجتمع الواحد، وأمتلك " بوتقاتالإنصهار" التي تخرج بيئة إجتماعية متقاربة ومتوحدة قبل أي أمة في التاريخ... من خلال أول الدول في العالم التي قامت على أرضه...
كان العراقيون القدامى يخضعون لنفس الظروف الطبيعية... يوحدهمفيضان النهرين أو جذبهما ... و شحة المواسم أو عطاءها... كان المجتمع العراقي إذن"صنيعة النهرين" ، ولذلك لم يكن غريبا أن يطلق على هذا الوطن "بلادما بين النهرين"، وإذا جاز لنا أن نرسم حدودا جغرافية لهذا الحيز لقلنا أنهالأرض الممتدة "ما بين ولادة النهرين إلى حيث ينتهيا"... وإذا كان البعضيصف مصر القديمة بأنها من "الشلال إلى البحر" ، أمكن لنا أن نجتهد لنقولبأن العراق القديم و الحديث هو " حيث يولد النهران وحيث ينتهيا".
والتعبير هنا عن ولادة النهر مقصود لذاته بمعنى أن العراقبهذا التعريف لا يشمل مناطق المنابع، وقبل أن يأخذ دجلة والفرات شكلهما كنهرين...
وإذن نحن أمام عملية تفاعل إجتماعي مستمرة هي الأقدموالأعرق على مستوى الأمم...
وبقدر ما كانت الدولة الواحدة عنصر تسريع وإنضاج للتفاعلالإجتماعي... كان النهران العظيمان دجلة والفرات، وما أرتبط بهما من نشاط زراعيالأداة الأساسية لتشكيل المجتمع العراقي وظهوره...
قبل أن يعرف العالم الرسل والأنبياء بقرون عديدة وقبل أنتنزل الكتب السماوية المعروفة ظهرت أول النصوص التي تتحدث عن الوطنية، والدفاع عنالأهل، والأرض، والعرض في العراق، مما يدل على حالة إجتماعية وعقلية ناضجةللمجموعة البشرية التي عاشت في ذلك الزمن هذا من جهة ... ومن جهة أخرى فإن هذهالنصوص تعبر عن إنتماء الفرد للأرض... وللجماعة البشرية الأوسع وإعتزازه بها،ودفاعه عنها حد الإستشهاد ... إنها أول الصور المنقولة من العالم القديم التي تعبراليوم عما يوصف بـ "الوطنية" ... و"الشهادة"... و"القيمالنبيلة"... يقول إنكيدو مخاطبا جلجامش في ملحمته ...
"يا صاحبي لقد حلت بي اللعنة...
سوف لن أموت ميتةرجل سقط في الوغى...
كنت لا أخشىالقتال، ولكنني سأموت ذليلا حتف أنفي...
فمن يسقط في القتال يا صديقي ... فإنه مبارك ..!!"
ومن يقرأ "الملاحم" و "الأساطير" التيخلدت الأعمال العسكرية للملكين "إينمركار" و"لوكال بندا"وكلاهما من ملوك سلالة الوركاء الأولى في بلاد سومر يعجب لغنى الملاحم الوطنيةوالقيم العليا في تلك النصوص عندما يتعلق الأمر بالقوى الخارجية التي تريد أن تغزوالبلاد...!!
السؤال هنا "والمفارقة كبيرة أيضا" هو ... هليمكن أن يوجد وطن لقوم بلا مجتمع تنضج فيه عوامل التوحد ... وبلا بشر تجمعهم قضيةواحدة...؟
وهل يكتمل المفهوم الوطني الذي تمجد هذه النصوص الدفاع عنهحد الإستشهاد من غير وجود الناس الذين يعطون لهذا الوطن معناه ومغزاه ...؟؟
إذا كانت أعرق الحضارات على الأرض وأقدم الدول والتنظيماتالتي نتجت عنها لم تستطع أن تنجب مجتمعا واحدا ذات خصائص مشتركة ومتقاربة عبر ألافالسنين في الحقبة الزمنية الممتدة من عمق التاريخ وبدايات الحضارة الإنسانية،والتي لم ينقطع خلالها التفاعل والإنصهار الإجتماعي... فكيف يوجد المجتمع ذات الخصائصالمشتركة، وفي أي البلاد...؟؟؟
ليخبرنا من يدعي أن المجتمع العراقي ينشطر إلى إثنين أوثلاثة أو ما يزيد عن ذلك عن دولة واحدة لا يوجد فيها تنوع ثقافي أو إثني أو تنعدمفيها صور الصراع داخل المجتمع... وتتمتع بالإنسجام الإجتماعي التام ...
إن مثل هذه الطروحات التي تبالغ في تضخيم حالة الإنقسام فيالمجتمع العراقي لا تمثل قفزا على حقيقةالوحدة الإجتماعية في العراق فحسب، ولكنها تمثل تجاهلا لأساسيات علم الإجتماعالحديث الذي بات إحتواء التنوع الثقافي والإثني، وكذلك تعزيز الإنسجام الإجتماعيداخل المجتمعات من أهم مباحثه، ومن أكبر مهامه.
إن الإنقسام في المجتمع العراقي حقيقة دامغة لا يجوزإنكارها، ولكن يجب وضعها في إطارها الصحيح والبحث عن جذورها، وسبل التعاطي معها،أما المناداة بتفكيك الدولة العراقية لحل التناقضات المجتمعية فيها، فهي دعوى لاتقوم على أي أساس منطقي أو علمي، وإذا كان أي مجتمع يواجه إنقساما يكون علاجهبالتفكيك فإن كل الكيانات القائمة في العالم ستكون عرضة للتفكك، ومن الملاحظ أنالتطورات الحضارية والحديثة قد حملت عوامل التفكك لكل المجتمعات بأكثر مما حملت منعوامل التوحيد، وصارت "الثقافة العالمية" و "القيم الكونيةالمشتركة" تطرق باب كل مجتمعات العالم وتهدد ثقافتها وقيمها المحلية والوطنيةفي الصميم.
عندما بدأت مقالتي هذه والتي عنونتها "أيها العراقي... من أنت ..؟؟" عن المجتمع العراقي وقضاياه المعاصرة لم أكن أتوقع بأنيسأخوض في بحر لا أحسن السباحة فيه، وكان يجدر بي أن أقف عند حوافه متأملا... غيرأن إغراء مواصلة الكتابة فيه يلح علي أن أواصل المسير، ونحن في خضم أزمة سياسية منالمؤكد أن بعدها الإجتماعي أعمق من ظاهرها السياسي، وأنا مع قصور بضاعتي في علمالإجتماع أجد من واجبي أن أتابع الكتابة، وأن أستفز غيري ليشارك ... أو يرد... أويعترض، وخصوصا من أصحاب الصنعة والإختصاص... وأنا في هذا الإصرار أتمثل قولالجواهري: " حب الحياة بحب الموت يغريني".
وفي الواقع لا يكتمل عقد النقاش الذي طرحته في هذه السطوردون أن نتناول محاور "الإنسجام الإجتماعي في العراق"، و "الهويةالعراقية ... وهل نعاني من صراع هوية" ، و "التنوع الثقافي والإثني فيالعراق ... وهل هو فسيفساء ثقافية أو بوتقة إنصهار.." وهو ما سنفعله فيالحلقات القادمة بإذن الله.، ومن الواضح أن الموضوع يجر بعضه بعضا، ويدفع بإستمرارلطرح المزيد من التساؤلات... والإجابات... وإثارة العديد من النقاشات والمحاور ،وهذا شأن كل قضية كبيرة يتعذر المرور عليها مرور الكرام.علي بابان وزير التخطيط السابق
https://telegram.me/buratha