حسين علي غالب
التضخم عدو الرفاه و أخطر مرض يمكن أن يضرب الاقتصاديات الوطنية ففضلا عن أنه يفاقم المعاناة المعاشية للقطاعات العريضة من السكان و يغير شكل التركيبة الطبقية و الاجتماعية فأن التخلص من أثاره و التعافي منه لن يكون سهلا خصوصا إذا استفحلت أعراض التضخم و يعتبر علماء الاقتصاد أن التضخم يكون خطيرا إذا تجاوز المرتبتين أي إذا أصبح عشرة بالمائة فما فوق و يسجل التاريخ الاقتصادي المعاصر صورا و نماذج لدول تجاوزت معدلات تضخمها هذه المستويات و وصلت حدودا خطيرة حتى أصبحت الأكياس تحمل بالعملة المحلية لسداد أثمان بسيطة كما هو الحال في العراق اليوم و يمكن ذكر أمثلة بعض دول أمريكا اللاتينية كالأرجنتين و كذلك حالة ألمانيا في الحرب و نماذج صربيا و تركيا و كثير من البلدان و إذا كان الرفاه المعاشي هو الضحية الأولى للتضخم فأن الطبقات الوسطى هي الضحية الثانية التي تسحق سحقا و تلتحق جمهرتها العظمى بالطبقة الفقيرة و المسحوقة ولا يمكن التعامل مع هذه النتيجة كمجرد تغيير بالتوزيع الطبقي و لكن لها أثارها الاجتماعية و الاقتصادية فالطبقة الوسطى عنصر استقرار و أمان اجتماعي و هي من عوامل التوازن الهامة في المجتمع كما أنها في دول العالم الثالث فائدة عملية التنمية إذ أن الأغنياء في تلك الدول غالبا ما يحتفظون بأرصدتهم في الخارج أما الفقراء فدورهم محدود في العملية الاستثمارية بحكم الوضع المعاشي الذي يحيط بهم و لقد شكلت الطبقة الوسطى في العقود الأخيرة غالبية المجتمع العراقي و لم يختل الوضع إلا منذ بدء حروب النظام السابق و إذا تعاملنا مع المفهوم المبسط للتضخم الذي يقول - الكثير من المال مقابل القليل من البضائع- فأن العراق في سنواته الأخيرة يقدم نموذجا صارخا لهذه الصورة فلقد تراجعت القدرة الشرائية للدينار العراقي بمعدلات خيالية و أصبحت دخول المواطنين لا تكفي لسد رمقهم و توفير حاجاتهم الأساسية و لو في حدها الأدنى و تراجع سعر صرف الدينار العراقي حوالي الثلاثة آلاف ضعفا إذا أخذنا أسعار الصرف السائدة و التي يساوي فيها الدولار الواحد ما يقارب من ألف و مائتين دينار عراقي و هكذا فقد أصبحت أي سلطة عراقية قادمة أمام تحدي ضبط التضخم المنفلت من عقاله و رد بعض الاعتبار للدينار العراقي هنالك الحل الذي لجأت إليه بعض الدول و هو أن تحذف أصفارا من عملتها المتدهورة و تستبدل المائة أو الألف وحدة من العملة النقدية بوحدة واحدة من العملة الجديدة و لكن هكذا إجراء بحاجة إلى تحسن في المعطيات الاقتصادية و إلى توافر حد أدنى من الثقة بالعملة الجديدة و بالاقتصاد الذي يسندها و كذلك تملك بعض الاحتياطيات النقدية من العملات الصعبة التي تمول عمليات الاستيراد و بدون توفر تلك الحدود الدنيا يتعذر على عملية إلغاء الأصفار أن تحقق مفعولها و تلجأ الدول عادة لحل مشاكل التضخم فيها إلى الموازنة بين عرض النقد و كمية البضائع و يشبه علماء الاقتصاد عادة هذه السياسة بمحاولة تصغير كيس النقد و تكبير كيس البضائع في محاولة رمزية لتبسيط المشكلة و اقتراح الحل و تصغير كيس النقد يعني تخفيف المعروض منه بوسائل السياستين النقدية و المالية و التي يلعب فيها البنك المركزي دورا حاسما في العادة أما تكبير كيس البضائع فيتطلب زيادة الإنتاجية بصورة كبيرة و هو المنهج الذي اتبعته ألمانيا للنهوض باقتصادياتها بعد كبوة الحرب الطاحنة و في الواقع فأن زيادة الإنتاجية و الارتقاء بها هو العلاج الشافي المؤكد لاستئصال التضخم و هو بالطبع أكبر تأثيرا من العلاجات المالية و النقدية و أدوم في الفاعلية و لأنجد مجتمعنا ترتفع فيه الإنتاجية يتعرض للتضخم أبدا و أكبر مثالين أمامنا هما الاقتصاديين الياباني و الألماني التي تكاد معدلات التضخم تنعدم فيهما و تقل مستويات الفائدة إلى أدنى الحدود و ما ذلك إلا للروح الإنتاجية العالية التي تقسم بها تلك المجتمعات و الذي منحها التحصين ضد هذا المرض الاقتصادي الوبيل إلا أنه من الطبيعي التذكير بأن علاجا كهذا لن يؤتي بين يوم و ليلة إذ لابد من إدخال تعديلات كبيرة على الأداء الاقتصادي ككل و تغيير الكثير من المفاهيم التربوية و الاجتماعية أيضا التي تمجد قيم العمل و الإبداع و المثابرة و تحيل الشعب إلى جمهرة فاعلة من المنتجين أن التضخم سيشكل عقبة كبيرة أمام الجهود التي ستبذل لإعادة تأهيل الاقتصاد العراقي و التخفيف من معاناة الشرائح الواسعة من المجتمع إلا أن المهمة ليست بالمستحيلة و من الضروري اعتماد منهجا شموليا في معالجتها يعمد إلى توفير احتياطيات نقدية ثم تعديل السياسات النقدية و المالية و أخيرا و ليس أخرا الارتقاء بإنتاجية الفرد و المجتمع العراقي وفي وسط هذه المحاور الرئيسية قد يشكل اقتراح حذف بعض الأصفار من العملة اقتراحا وجيها لإعادة الاحترام إلى الدينار العراقي
https://telegram.me/buratha