( بقلم : د. حامد العطية )
حدث ذلك أثناء صعود المصور منصة المشنقة، اهتزت يده، فتأرجحت آلة التصوير واضطربت الصورة، كان قبو الإعدام معتماً، اضطر المصور لاستعمال أنوار آلة التصوير لإنارة موطأ قدميه، ولولا ذلك لمر من دون أن يراه أحد ، تسلطت دائرة الضوء عليه لحظات معدودات فقط، ثم ابتلعه الظلام الدامس، لتواصل العدسة متابعة الحدث الرئيس، وأجزم أن الكثيرين مثلي لم يشاهدوه لأول وهلة، فقد كانت عقولنا منشغلة تماماً بعملية الإعدام، ذلك الحدث الخارج عن المألوف، لقد اعتدنا في العراق على مناظر قتل الأبرياء وتشريدهم وزجهم في السجون، أما مشاهدة إعدام طاغية فأمر نادر الحدوث، ويمكن القول بأن مقابل فناء الملايين من العراقيين الأبرياء يقتل طاغية واحد، فما افظعها من معادلة جائرة، لهذا السبب لم ألاحظ المخلوق الغريب بأم عيني وعقلي إلا عند رؤيتي شريط الإعدام المصور بالسرعة البطيئة.عندما صعد المصور وراء الطاغية إلى المنصة سجلت عدسته منظر مرور مخلوق غريب على إحدى درجات السلم، المخلوق صغير، يشبه الصرصر في مشيته، ولكنه أكبر منه حجماً، ويكاد يكون بحجم فأر، استعرضت اللقطات التي ظهر فيها المخلوقات عدة مرات فلم اهتدي إلى التعرف عليه، لو كنت من الماديين الذين لا يؤمنون إلا بما هو محسوس لرجحت أن يكون جرذاً أو صرصراً ضخماً من تلك التي صاحبها صدام أثناء إقامته الطويلة في الحفرة، ولأن عقول أمة الصراصير وبني الجرذان متناهية في الصغر فلا أستبعد استئناسه بصدام، وعندما يعيش طاغية في حفرة لشهور طوال يكون أفضل رفيق له جرذ أو صرصر، ولربما استبد الشوق بذلك الجرذ أو الصرصر لرؤية رفيق حفرته صدام فانسل إلى قاعة الإعدام في ذلك الصبح الأبلج ليشاهد إزهاق روحه الشريرة.
ولأني لست من الماديين، بل من المصدقين بالغيب والقدرات الغيبية، فلم أستبعد أن يكون المخلوق الغامض ظاهرة فوق الطبيعة وخارج ما هو معتاد ومعروف لدينا، قلت لنفسي: لعله شيطان ابتعثه إبليس للترحيب بمقدم ربيبه صدام، فلم يكن هنالك مريد أكثر إخلاصاً ووفاءً للشيطان الرجيم من صدام حسين، وقد استبطأ قدومه، ظاناً بأن الطاغية سيحل في سقر بعد الإطاحة بحكمه الطاغوتي مباشرة، لكن ذلك لم يحدث، ومرت شهور طوال بعد استخراجه من الحفرة قبل الحكم عليه بالإعدام، ثم حل اليوم المنتظر، وكان الشياطين في حالة نفسية متذبذبة، تتجاذبهم مشاعر الغبطة والحزن، الفرح لمقدم تلميذهم "النجيب"، الذي قدم أعظم الخدمات لقوى الشر، فقد كانوا في لهفة للقاءه وجهاً لوجه، وفي الوقت ذاته اغتم الشيطان وأتباعه لإعدام صدام، لأنهم بذلك فقدوا عبداً مطيعاً، نفث سمومه الطائفية والعنصرية في نفوس أتباعه من الأعراب، وأرسى بينهم فكراً ملتوياً يحضهم على التباغض والتقاتل، وأشاع بينهم القتل والتعذيب، حتى رخصت في أعينهم دماء الأبرياء المظلومين وأعراض العفيفات ودموع اليتامى والثكالى.
وإن لم يكن ذلك المخلوق الغامض شيطاناً فماذا يكون؟ الاحتمال الأخير أن يكون مخلوقاً ممسوخاً، استخرج من أسفل سافلين، لتحل به روح الطاغية صدام، فيسجن فيها، إلى يوم الدين، والتناسخ عقيدة في بعض الأديان مثل الهندوسية، وتقضي بأن للمخلوقات مراتب ودرجات من السمو والرفعة، وبينما تقبع بعضها في الدرجات السفلى من هيكل المخلوقات تتربع أخرى على الدرجات العلى، ويشغل الإنسان مرتبة عالية، ولكنها تتفاوت من شخص لآخر، ويحدث التناسخ صعوداً أو هبوطاً، فقد يمسخ الإنسان الشرير حيواناً وضيعاً، أما ذو الأخلاق الطيبة فقد ينسخ في شكل إنسان من طبقة إجتماعية أرقى.
لا تناسخ في الإسلام، ولكن من الممكن أن يمسخ الإنسان مخلوقاً منحطاً، ويخبرنا القرآن الكريم بأن بعض اليهود مسخوا قردة لتعديهم على تعاليم السبت، كما كان الموحدون من العرب قبل الإسلام يعتقدون بأن الله غضب على أساف ونائلة لاقترافهما معصية الزنا في الكعبة فمسخهما جماداً، وأقوى دليل على فسوق وضلال أهل الجاهلية عبادتهم لهذين الصنمين، وأتباع صدام والقاعدة هم الخلف المتطبع على ضلالة ذلك السلف الجاهلي، فالمسخ إذاً عقوبة آلهية بحق عتاة المعاندين والمخالفين للأوامر الربانية، ولم يكن هناك من البشر في زماننا أكثر استحقاقاً للمسخ من الطاغية صدام، وهو قد رضى لنفسه الهبوط بها من علياء البشرية إلى حضيض الهمجية، واقترف من الجرائم والموبقات، ما يستوجب عليها أشد العقوبات في ناموس الله والقوانين الوضعية، والإعدام أقل القليل بحقه، لأنه جزاء من يقتل إنساناً واحداً من دون حق، فما بالك بمن قتل وشرد وسجن الملايين؟ هل مسخ صدام مخلوقاً منحطاً، لا هو جرذ ولا صرصر، بل هو ما بين الحيوانين، مزيج يجمع أسوء صفاتهما، حتى إذا حل يوم القيامة أحضر المسخ صدام وقيل لأتباعه من القتلة الطائفيين والباكين عليه من الأعراب والمستعربين في اليمن والأردن وفلسطين وغيرها من بلاد الضلال هذا الذي كنتم تعبدون؟ بالرغم من كثرة موجبات مسخ صدام استبعد ذلك، لسبب واضح وبسيط، وهو أن صدام يقبع وحده في الدرك الأسفل من الخلق.
https://telegram.me/buratha