بقلم : طارق رسن
تسع سنوات مضت على سقوط صنم بغداد في ساحة الفردوس، تسع سنوات مضت بحلوها ومرها على تخلص العراقيين من قبضة النظام البعثي المستبد الذي كان يمسك بمقاليد الأمور بقبضة من حديد على مدى أكثر من ثلاثة عقود مظلمة، عانى فيها العراق بمختلف مكوناته وأطيافه شتى أنواع الرزايا والويلات، فلم يكن العراقيون يخرجون منهكين من حرب طاحنة، حتى يدخلهم الطاغية المقبور في أتون حرب أخرى ألعن من سابقتها، ناهيك عن ممارساته لكل أشكال القهر والإجرام الدموية التي كان النظام الصدامي يتقن أساليبها القذرة أكثر مما يتقن شيئا آخر.وبسقوط النظام الدكتاتوري على أيدي قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في التاسع من نيسان عام 2003 خرج العراقيون من جوف الظلم والاستبداد ليدخلوا مرحلة جديدة من مراحل حياتهم السياسية والاجتماعية لم يكن لهم سابق عهد بها، ولا بما تحمله وتبشر به من مفاهيم وقيم مغايرة لما ألفوه واعتادوا عليه في السابق . الدستور، الانتخابات، البرلمان ، وحقوق الإنسان ، وحرية التعبير عنالرأي..والكثير من هذه النظم والمفاهيم التي تستند عليها الأنظمة الديمقراطية في العالم المتقدم كانت مجهولة ومبهمة في ذهنية المواطن العراقي البسيط ، ولم تجد لها يوما ما مكانا مناسبا في ثقافته وأنماط حياته المختلفة طيلة عقود القهر والاستبداد الماضية. ومن الطبيعي والمتوقع أن تحدث بعد التغيير المفاجئ ردود أفعال متباينة تجاه الديمقراطية وقيمها الجديدة، تختلف درجتها من مواطن لآخر تبعا لنسبة وعيه ومدى تقبله لمثل هكذا ثقافة طارئة تحاول فرض نفسها عليه وبقوة. وبما إن إرث الطغاة ثقيل، وإنهم لا يتركون وراءهم سوى الخراب، وسوى شعوب منغلقة على نفسها تفتك بها أوبئة الجهل والأمية .. وتبعثر هويتها الوطنية الواحدة هويات صغيرة ثانوية عرقية وطائفية وقومية، والكثير من الأمراض الاجتماعية الأخرى، لذا فقد كانت ردود أفعال العراقيين في أول الأمر تجاه الديمقراطية والتحول الجديد غير واضحة، ما أدى إلى تنامي الشعور بالإحباط وخيبة الأمل لدى الكثيرين منهم، لا سيما وان الإرهاب الأعمى بات يستهدفهم وينغص عليهم حياتهم بكل ما أوتي من وسائل خبيثة ومروعة، لكننا يجب أن لا نستمرئ على الدوام إلقاء تبعات ما حصل من تعثر في مسيرة ديمقراطيتنا الناشئة على شماعة النظام الدكتاتوري السابق، وان كانت سببا جوهريا في ما نعانيه اليوم من اضطراب وتشوش، وتخلف عن الآخرين بمختلف المجالات، لأن ذلك من شأنه أن يبعث فينا روح التواكل والاستسلام ويكبل إرادتنا وسعينا نحو التغيير ، وما علينا سوى أن نطوي صفحة الماضي الأسود، ونبدأ من جديد في صراع مرير ضد كل المعوقات والمعرقلات التي تحول دون تقدم وترسخ المبادئ الديمقراطية في بنية المجتمع العراقي المتلهف للاستقرار والأمن وللحياة السياسية السليمة، وهي معركة غاية في الصعوبة، لكن لابد لنا من مواجهتها بكل ما أوتينا من قوة وحكمة.إن لزعماء الأحزاب السياسية مكانة متميزة ومؤثرة في المجتمع، فهم بمثابة القدوة الصالحة والمثل الذي يحتذى به، وعليهم تقع مسؤولية كبرى في إشاعة قيم العدل والتسامح والمساواة ليس بين أتباعهم وأنصارهم فحسب، بل بين المواطنين بصورة عامة بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية. وذلك من خلال سلوكياتهم ومواقفهم وأقوالهم التي يجب أن تتجسد فيها معاني الديمقراطية بأفضل صورها، وان يسعوا دائما في مخاطبة عقول الجماهير لا إلى مخاطبة عواطفهم وأهوائهم لكي يغرسوا في وجدانهم النزعة العقلية المتنورة، ويخلقوا أجيالا قادرة على مواصلة الطريق نحو بناء صرح الديمقراطية المنشود. بيد إننا لا ننسى بأي حال من الأحوال دور الطبقة المثقفة الواعية في قيادة المجتمع والنهوض به في هذه المرحلة الانتقالية الخطيرة التي يمر بها، فمسؤوليتها لا تقل عن مسؤولية الزعامات الحزبية في هذا الخصوص.العراقيون اليوم هم ليسوا عراقيي التسع سنوات الماضية، فقد بدؤوا يدركون أهمية مشاركتهم في العملية السياسية من خلال الانتخابات، ومدى قدرتهم في التأثير على توجهات الحكومة وقراراتها، وأصبحوا يلاحظون الفارق الكبير بين ما حققته لهم ديمقراطيتهم الناشئة من مكاسب وما تحققه ديمقراطيات الدول المتقدمة التي سبقتهم بعهود طويلة في هذا المضمار، وبالرغم من هذه المقارنة اللا موضوعية إلا إنها تدل على إن مستوى وعيهم آخذ بالتصاعد شيئا فشيئا، وإنهم ما عادوا يقنعون من الديمقراطية بمجرد المظاهر والشكليات دون أن تكون لها نتائج ملموسة على أرض الواقع. التسع سنوات الماضية وبرغم ما شابها من تعثر وأزمات في العملية السياسية، وإخفاقاتكثيرة، أهمها عدم حصول التوافق والانسجام في الرؤى والاتجاهات بين المكونات والتيارات السياسية الفاعلة، وما ينجم عن ذلك من تأثيرات سلبية، إلا إننا يجب أن ندرك بان هذه الأمور المغلوطة هي نتاج طبيعي لعملية الانتقال الصعبة من مرحلة سابقة إلى مرحلة أخرى مختلفة، وقد تكون جزءاً من درجة التقدم والنضج السياسي لدى الأحزاب السياسية والمواطن العراقي وهم يخوضون في طريق الديمقراطية المحفوف بالمخاطر والآلام.
https://telegram.me/buratha