( بقلم : طالب الوحيلي )
كشف تنفيذ الإعدام بحق صدام ، وجود أزمة في العقل العربي كأنظمة او شعوب،تجسدت في ان هذا العقل يختزن في بواطنه وأعماقه صورة متجذرة للحاكم المستبد ،او الطاغية الذي يتربع في قعر اللاوعي كاله او ان حالهم لا تستقيم الا وان يتحول مستوى الخضوع من حكم سلطوي الى عبادة للشخصية تمليه عليهم مكوثهم في الحكم اطول مدة ومناهج الثقافة المسيسة باتجاه نمط الحكم المفروض ، او كما يشخصها الكاتب الرائع شاكر النابلسي في مقاله ـ لماذا أصبحت بعض الشعوب ككلب ديستوفيسكي؟ ـ (عاش صدام وحكم بالمشانق، ومات بالمشانق نفسها. وهو مصير غير نادر في التاريخ البشري، ولكنه مصير نادر وبارز في التاريخ العربي.وهو عندما هدد العراقيين قبل ثلاثين سنة، بأنه لن يترك العراق إلا يباباً وخراباً، فقد أوفى بوعده، ولم يحنث به. وها هي زمرته في العراق، وبدعم من بعض دول الجوار، يحوّلون العراق كل يوم في وسطه وفي جنوبه إلى أرض يباب، ومسلخ بشع للموت، وإلى شعب من الشحاذين وباعة الخرافة والدجل، بعد أن انهارت الدولة المدنية.لقد تحوّل جزء من العراق وجزء من الشعب العراقي، وكذلك جزء من الشعب العربي ومثقفيه وصحافييه ونقابييه وقضاته إلى ما يشبه صدام، بعد أن تم التماهي بهذا الطاغية طيلة ثلاثين عاماً. فكل الذين كانوا يدافعون عن الحرية والديمقراطية بقوة، أصبحوا بموت صدام يدافعون عن رمز كبير من رموز الطغيان والديكتاتورية. فهم قد حلّوا في شخصية صدام، أو أن شخصية صدام الطاغية قد حلّت بهم، إذا أخذنا بنظرية الحلول الصوفية. وهذا يذكرنا برواية الروائي الروسي ديستوفيسكي "مذلون مهانون" وكيف أن أحد شخصيات روايته (أخمينيف) وهو عجوز طاعن في السن، صار هو وكلبه يشبهان بعضهما نتيجة لطول العشرة، وشدة التلازم.
وهذا التماهي القاسي ، وهو مرض خطير، يستدعي من الشعوب العربية وقتاً طويلاً ، وعلاجاً صعباً، لكي يبرأوا منه) وهذه الازمة توالدت وتضخمت بما أصاب الحياة السياسية من اختزال في التعاطي الواعي للعمل الحزبي بسبب سطوة الأحزاب الشمولية وذوبان الايديلوجيات التقليدية في مستنقعات الثقافة السائدة لتلك الانظمة بعد ان حاصرتها القوة المفرطة للمؤسسات الأمنية التي جندت لرئس النظام ملكيا موروثا كان ام جمهوريا انقلابيا او نظام مشايخ وكلها لا تخرج من نطاق العائلة الحاكمة او الانقلاب الذاتي ،لاسيما بعد انحسار موازين القوى الدولية باتجاه القطبية الواحدة وانهيار اكبر منظومة فكرية قارعت القوى الاستبدادية التقليدية في العالم الحر ،وانكفاء الحركات القومية التي وقفت وسط هزائم وانتكاسات وطروحات طوباوية أثبتت فشلها منذ اول مواجهة مع اعدائها وامتد ذلك لكي تتحول الميول الوحدوية الى مراكز للصراع في ذات الحزب الواحد او لتنتقل الى مواجهات دامية حول الحدود واصل الأمر فيها الى ابتلاع دولة لأخرى كما هو الحال مع حزب البعث الكافر على وفق فتاوى عبد الله ابن باز مفتي الديار المقدسة ،الذي يذكرنا بولادة إخطبوط جديد من نسج الفكر السلفي التكفيري ومحاولاته الدموية في رسم خارطة جديدة للحضارة الإسلامية على أعقاب الحرب الباردة ومن سنخ خيالها ،وكانت أفغانستان منطلق هذه العقيدة .
قوالب جاهزة تحركها عوامل الفراغ الفكري ومحاولات الفرار من صراع الذات المنقادة للبطل التأريخي ورمزيته فتتنقل من أقصى اليسار الى أحضان اليمين كما يصفها لينين في مرض اليسارية الطفولي ،أي من دعاة إنسانيين رافضين للتبعية الفكرية او ما يسمى بالفكر المستورد او يفرطون بادعاءاتهم بالمطالبة بالعدالة والقيم السامية الى تكفيريين يسوغون قتل أبناء جنسهم بدافع وهمي أملاه عليهم عقل فسر الأشياء بحدوده لا بحدودها الحقيقية مانحا إياها مسميات استقاها من تراث زائف حكمته المصالح الطبقية او العرقية او الاستعمارية لا تبعد عن اختلال واضح في منظومة القيم الإنسانية الحقيقية ،وتتطور من تجاذبات وحوارات مذهبية تقليدية بتفاصيلها الواضحة الى فوضى القتل كوسيلة للتعبير عن الاختلاف او الذات .
الواقع العربي معروف بتداعياته العقائدية والسياسية والاقتصادية ،وقد خضع الى اختلال في توزيع الثروات الطبيعية والبشرية لينتج مجتمعات فقيرة بما لديها من أراض قاحلة وزخم بشري كبير ،وأخرى وهبها الله ثروات اكبر من حجمها وطاقاتها وهنا يتضخم الاختلال بدل حلول التجانس والبحث عن التكامل،وليتحول تضخم الثروات في الدول النفطية الى كارثة اقتصادية تقتضي وضع حسابات دولية لها ،فلا تجد القوى الدولية بدا من توريط بعض الأنظمة في كمين لاستنزاف تلك الثروات لتبقيها حبيسة مديونيات ثقيلة ،كما حدث في العراق في عهد الطاغية صدام، ليبقى الجميع عائما على هامش العولمة الجديدة وتوهجها الحضاري والتقني ،فيما تجد شعوبه وقد دجنت في مثل هذا المحيط .
لعل الثورة الثقافية التي اغدقتها العولمة هي التي سحرت (المثقف) العربي من نتاج مراحل الربع الأخير من القرن العشرين بما صاحبها من اهتزازات وتداعيات عنيفة اثر انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته الطبقية والفكرية التي فقدت فحواها السياسية على اقل تقدير ،فيما ساهمت حروب الخليج في تغيير لمراكز القوى الإستراتيجية أسقطت الكثير من التصورات على الأجيال المعاصرة ،لاسيما وان الكثير من عوالم هذه الثورة قد وفرتها ثورة المعلوماتية او الانترنت والانفتاح الفضائي لوسائل الإعلام المرئي المتيسر لتجد الأنظمة العربية فيها مخدرا ثقيلا بما تزج به من تفاهات و أفكار ترمي جميعها الى إغراق العقل الإنساني بصور القتل البشع وتسويغ الفعل الجرمي أيا كان نوعه ،فليس غريبا ان يتبادل الفتيان أفلام الجنس او الذبح مادامت من السهولة بمكان ان تدخل البيوت بدون استئذان وان يتسلى برؤيتها الجميع ،بعد ان أصاب العقم رحم الإبداع الحقيقي لتبقى صور أجيال بدايات القرن العشرين من عباقرة وادباء وفنانين ومفكرين شاحبة مهملة على رفوف المكتبات التي جافتها الأجيال الجديدة التي تتفاوق على بعضها عددا وتتسارع في الابتعاد عن معين التراث الفكري شيئا فشيئا ، وقد غرقت هذه الأجيال بطوفان الانترنت الذي صار لغة لعصر غير عصر الإبداع العربي بأسمائه منجزاته الخالدة ،فلا نجد في صفحاته سوى استذكارات بعيدة لعمالقة الأدب او الفن او الثقافة الذين لا يستطيع قراءهم متابعتهم لكون معظمهم قد اعتراه الهزال او راح يعد أيامه الأخيرة ،فيما يضل جيل العولمة الجديدة مشدوها ومنشدا الى الجات والمسنجر يساجل فيه من وراء الحجب من أبناء جيله العربي فيقارفه خلجات معبأة بما تتقيأ به وسائل الإعلام التي استفردت بها بقايا زمان الانحطاط وقيم التردي العربي التي أنجبتها عقائد البعث وغيره من الايديلوجيات القومجية او الشوفينية او السلفية الدينية التي وجدت لها مسرحا فسيحا اثر تداعي الأحزاب التقدمية ، وتغير عوامل القوى في الشرق الأوسط بعد سقوط شاه إيران وبروز الإسلام السياسي كمشروع منافس للمعسكرين المتصارعين الاشتراكي والرأسمالي ،وهو مشروع قد تجد فيه معالجات لمعضلة الإنسانية التي عجزت عن حلها المدارس الايديلوجية المقترنة بكلى المعسكرين ،وذلك مالا يرضي الرأسماليين طبعا كون الشرق الأوسط داخل ضمن دائرة الهيمنة التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية ،وقد وجد في جر المنطقة الى حرب جانبية وإيجاد خصومات جديدة وسيلة لنقل قطع العب بعيدا عن اسرائيل بقصد التمهيد لتطبيع الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية ومن ثم تأصيل النكسة في الذهن العربي كحاصل منطقي للتداعي السياسي للفكر العربي المهيمن الذي راح يستجدي الحلول البائسة بقصد الابتعاد عن المواجهات الحاسمة ،فيما يتمخض عن ذلك تصارع الاهل فيما بينهم وسفح الدماء من اجل الوصول الى المبتغى وهو بناء دكتاتوريات جديدة كالذي يجري اليوم في فلسطين بالذات بعد ان استلمت إسرائيل زمام كل مبادرة ،لذا لابد من محاصرة الجمهورية الإسلامية في إيران ومواجهتها عسكريا بمباركة ودعم مراكز المال ودعم العمق الجماهيري العربي الذي صحت فيه النزعة القبلية او القومية ناهيك عن الطائفية ،وبذلك تجسم شيطان صدام حسين ليكون رمزا في الذهن العربي المخروم ولينافس في أحلامهم كل طغاة الأساطير الذين يمجدهم الجهلاء بالرغم من سفكهم الدماء واغتصاب النساء وإحراق المدن ،وبعقلية المراهقين يجدون في كل جرم يرتكبه هذا الطاغية ضد شعبه او غيرهم هو مجد يسطر في سجل أمجاده فيكون فتى أحلام فتياتهم الائي تطبعن بالرذيلة بعد ان انتابتهن ثورة العري او سعار تقليد الغرب الماجن بالأزياء والتعامل ،في الوقت الذي يسير العراقي صوب جبهات الموت التي فغرت فاها لمدة ثمانية سنوات لا تماثلها كل الحروب العربية جسامة وضراوة وتضحيات ،لكن الأمر الأدهى ان تنشطر منظومة التحالف التي أحاطت الطاغية ونظامه لتكون وجها لوجه مع شروره وطغيانه فيمرغ انفها في عقر مجالسها العربية وعلى طاولات جامعتها التي شهدت فضاضة دبلوماسية الشر عبر إمعات البعث التي انتهت بابتلاع اقرب حلفاء حرب الخليج الأولى والجزء الأقرب لجبهات قتاله ،ففي غضون ساعات تحولت دولة بكاملها الى محافظة عراقية وتحول أهلها من أسياد يشترون من يشاءون وما يشاءون ويستمتعون بثرواتهم وحياتهم الى أسرى وقتلى يعمل فيهم السيف والقتل الذي وحدهم تماما مع اغلبية الشعب العراقي الذين ساووهم فقرا وحزنا ،وهنا انقلبت الموازين وتحول القائد الرمز العربي الى غاصب وجلاد ليتدارك العقل الديني الإفتائي حقيقة كان قد أغمض عينه عنها وهي ان صدام كافر وفكر البعث كفر ،نعم إنها فتوى عبد العزيز بن عبد الله ابن باز التي جاء فيها (السؤال : هل يجوز لعن حاكم العراق؟ لأن بعض الناس يقولون: إنه ما دام ينطق بالشهادتين نتوقف في لعنه، وهل يجزم بأنه كافر؟ وما رأي سماحتكم في رأي من يقول: بأنه كافر؟
الجواب : هو كافر وإن قال: لا إله إلا الله، حتى ولو صلى وصام، ما دام لم يتبرأ من مبادئ البعثية الإلحادية، ويعلن أنه تاب إلى الله منها وما تدعو إليه، ذلك أن البعثية كفر وضلال، فما لم يعلن هذا فهو كافر، كما أن عبد الله بن أبي كافر وهو يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم-، ويقول: لا إله إلا الله ويشهد أن محمدا رسول الله وهو من أكفر الناس وما نفعه ذلك لكفره ونفاقه فالذين يقولون: لا إله إلا الله من أصحاب المعتقدات الكفرية كالبعثيين والشيوعيين وغيرهم ويصلون لمقاصد دنيوية، فهذا ما يخلصهم من كفرهم؛ لأنه نفاق منهم، ومعلوم عقاب المنافقين الشديد كما جاء في كتاب الله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}، وصدام بدعواه الإسلام ودعواه الجهاد أو قوله أنا مؤمن، كل هذا لا يغني عنه شيئا ولا يخرجه من النفاق، ولكي يعتبر من يدعي الإسلام مؤمنا حقيقيا فلا بد من التصريح بالتوبة مما كان يعتقده سابقا، ويؤكد هذا بالعمل، لقول الله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا}، فالتوبة الكلامية، والإصلاح الفعلي، لا بد معه من بيان، وإلا فلا يكون المدعي صادقا، فإذا كان صادقا في التوبة فليتبرأ من البعثية وليخرج من الكويت ويرد المظالم على أهلها، ويعلن توبته من البعثية وأن مبادئها كفر وضلال، وأن على البعثيين أن يرجعوا إلى الله، ويتوبوا إليه، ويعتنقوا الإسلام ويتمسكوا بمبادئه قولا وعملا ظاهرا وباطنا، ويستقيموا على دين الله، ويؤمنوا بالله ورسوله، ويؤمنوا بالآخرة إن كانوا صادقين. أما البهرج والنفاق فلا يصلح عند الله ولا عند المؤمنين يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، هذه حال صدام وأشباهه ممن يعلن الإسلام نفاقا وخداعا وهو يذيق المسلمين أنواع الأذى والظلم ويقيم على عقيدته الإلحادية البعثية...)
نفس مصادر تكفير صدام وحزبه هم اليوم من يكفر الشعب العراقي المسلم الذي أذاقه صدام وحزبه أنواع الأذى والظلم وأقام عقيدته الإلحادية ،على حد وصف الشيخ ابن باز أعلاه،وقد سادت العقل العربي من محيطه الى خليجه هذه العقيدة ليجيشوا جيوش الإرهاب وليستبيحوا دماء وأرواح النساء والاطفال والشيوخ ورجال الدين ورجال العلم والفكر بدعوى الرافضية مرة ومن ثم الصفوية وليستعيدوا فكرة التحالف السالف ضد إيران إبان حرب الخليج ،الى تحالف جديد ضد الشعب العراقي وحكومته المنتخبة من قبله بحجة محاربة المحتل الأمريكي وحلفائه والشعب بأغلبيته بفرية بليدة هي ان هذا الشعب عميل !!اكثر من عشرين مليون عراقي متهم بالعمالة مقابل اقل من سبعة ملايين اتهمت أغلبيتهم بموالاة صدام وهو كافر بمن معه من أتباع بعثيين حسب الفتوى السالفة الذكر .
أي عقل هذا ،وأي انحطاط يدعوهم الى البكاء على إعدام هذا الجلاد وقد شاركت في تلك المراثي أغلبية منظومة المثقفين العرب وامتدادات شعبية تكاد تعلن حربا ضد شيعة العالم وليس شيعة العراق ،مما يشخص الظاهرة على انها انهيار للقيم الروحية لهذا الجزء من الحضارة الإنسانية ،لأنها فضلت جلادا ممسوخا من كل بقايا الطغاة والساديين والمعتوهين ،على شعب او امة يشهد لها التأريخ بما قدمت من تراث فكري تنويري وإبداعي مازالت شواخصه باقية لكل من وهبه الله عقلا وفكرا وبصيرة ،بالرغم من استهدافهم المزمن من قبل طغاة العصور وآخرهم صدام وحزبه ومن حالفه من مسوخ الحضارة وبقايا النفاق الجاهلي......
https://telegram.me/buratha