السيد حسين الصدر
الانقلاب على الاصحابالمراحل التي يقطعها الانسان ، وهو يكدح في الحياة ، ليست -في الغالب- على وتيرة واحدة ، وانما هي متفاوته مختلفة ، فتارةً تعروها الشدائد والصعاب ، واخرى تكون حافلةً بالمغانم وبما لذَّ وطاب ...!!!وحين ينتقل من خندق المكابدة والخساسة ، الى خندق السلطة والرئاسة، يسارع أصحابه القدامى ، ورفاقه في حقب المعاناة في الوفادة عليه - مُبارِكِين مهنئِين ، وآملين ان ينالوا من عنايته وبرّه ،ما يعوّضهم عن ألوان من الحرمان والمكابدة .انهم يُريدونه ان لاينسى أيامه التي عاشها معهم ، يوم لم تكن الدنيا تتلقاه بثغر باسم ......انها الايام التي تقاسموا فيها معه الشجون والآلام ، وما كانوا يواجهونه في طريقهم من ألغام ...وثمة فارق كبير بين مَنْ يبقى وفيّاً للأصحاب ، فاتحاً أمامهم الأبواب ، وبين يسدل الستار على تاريخه معهم ، حتى ليصدق عليه قولُ الشاعر:كأنْ لَمْ يَكنْ بَيْنَ الحجونِ الى الصفاأنيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بمكةَ سامرُومَنْ تُغَيِرُّهُ المناصب والكراسي على أصحابه ، بل على الناس أجمعين ، لايصنّف في عِداد أصحاب النفوس الكبيرة ، الواثقين بما يملكون من قُدرات ومواهب وبراعات وميزات فريدة ، فهؤلاء لا تغيرهم السلطة .أمّا من كان المنصب أكبر منه، فلا تجد منه الا الجحود والنكران والتجبر والطغيان .لقد جاءت في ترجمة أزهر السمان (ت203 هجرية ) - وهو أحد أصدقاء المنصور الدوانيقي قبل توليّه السلطة ،قصةٌ لاتخلو من عبرة ، نسوقها هنا وقد وردت في وفيات الأعيان لابن خلكان ج1/ 106 جاء السمان ليهنى المنصور فَحَجَبَهُ ..!!وهذا يعني :ان المنصور قد تهرب من لقاء السمّان ، ولم يَاْذَنْ بالدخول عليه ، وفي ذلك منتهى الجفاء ، لاسيما مع تلك العلاقة المعروفة بينهما .ولكّن (السمّان) لم يَأْنَفْ من مواصلة المحاولة للوصول اليه وهكذا كان ، فقد دخل على المنصور في مجلسه العام ....واذا كانت المفارقة في إعراض (المنصور ) عن استقبال (السمان) رغم صداقته القديمة كبيرةً ، فان المفارقة في غياب المجلس العام المفتوح أمام المواطنين -وهو مالم يلتزم به عامة المسؤولين اليوم - أكبر ..!!وعلى اية حال ، فقد دخل السمّان وسلّم على المنصور فما كان من المنصور الاّ ان سأله قائلاً :ما جاء بك ؟وقد تضمّن السؤال نبرة نابيه ، حيث لم يكن من المناسب أخلاقياً ، ان يُطرح مثل هذا السؤال على صاحب قديم الاّ ان السمّان - وفي غمرة إصراره على مواصلة الشوط مع المنصور ، ابتلع الغصة وبادر الى الجواب قائلاً :" جئتَ مهنئاً بالأمر "اي جئت مهنئاً بالخلافةفقال المنصور :" اعطوه الف دينار ، وقولوا له :قد قضيتَ وظيفة الهناء ، فلا تَعُدْ اليّ "ان الأمر بابلاغ (السمّان) برغبة المنصور بعدم عودته ثانيه اليه ، يحمل معنى الإهانة والإهانه لاي مواطن مرفوضه مستهجنة فكيف اذا كانت لصاحب وصاحب قديم ؟انهم كانوا يقولون :ان المنْصِب يُسفر عن جوهر الأخلاق ومن هنا فقد بانت أخلاقية المنصور مكشوفه دون غطاء ، وهي مصطبغة بالجفاء !!ومشوبه بعدم الوفاء ..!!وبعد عام من وفادة السمّان على المنصور ، عاد الى لقائه ثانيه ، فحجبه ايضا ، فأضطر السّمان الى ان يدخل عليه يوم جلوسه العام - تماماً كما دخل عليه أول مرة في العام الماضي - وسلّم عليه وهنا بادره المنصور سائلاً :( ما جاء بك ) ؟مُكرراً نَفْس المعزوفة الشائنه ..!!فما كان من السمّان الاّ ان قال :" سمعتُ أنك مرضتَ فجئتُك عائداً ،فقال المنصور :(( أعطوه ألف دينار ، وقولوا له :قد قضيتَ وظيفة العيادة ، فلا تَعُدْ اليّ فاني قليل الأمراض ))والسؤال الآن :هل كان يصعب على المنصور معرفة الدوافع الحقيقية لمجئ السمان ؟انها زيارة تحمل معنى الاشارة ..!!ان السمّان في انتظار صِلة المنصور وعطائه ليس الاّ ..!!لم يكن من المناسب على الاطلاق افتعال الجهل بالدوافع والأسباب كما انه لم يكن من المناسب المنع والردع من تكرار الزيارة ، لو كان المنصور ممن يُبْقي على العهود ..!!ولم تقف القصه عند هذا الحدّ فقد جاء (السمان) بعد عام من هذه الزيارة ، واحتال لدخوله على المنصور، بمثل ما احتال به في المرتين السابقتين ،ودخل مسلّماً ، فقال له المنصور :" ما جاء بك " ؟وهو السؤال التقليدي الذي يُشنف به (.....) سمع السمان كل مرة ..!!فأجابه السمّان قائلاً :(سمعتُ منك دعاءً مستجاباً ، فجئتُ لأتعلمه منك )فقال له المنصور :( يا هذا ، انه غير مستجاب،اني في كل سنة أدعوا الله ان لا تأتيني ، وأنت تأتي )وبمثل هذا المنطق الجارح قابل المنصور السمان ..!!مُضافاً الى انَّ حصيلة الجولة الثالثة، كانت الخيبه والحرمان ..!!وموطن العبرة : ان التنكر للأصدقاء مسلك مذموم ، يُثبته التاريخ في صفحاته ، لتقف الأجيال عبر امتدادات الزمان والمكان على رموزه ووقائعه،فتُجددّ الاستنكار والاستهجان، وتبتعد عن مصائد الشيطان .
https://telegram.me/buratha