السيد حسين هادي الصدر
ومن الظنّ ما قَتَل في بطون كتب التاريخ والأدب ، قصص وحكايات ، لم يكن سردُها مجردَ إخبار بأحداث ، وانما كان لأغراض أعمق من ذلك بكثير ...انها الدروسُ المنتقاة من التجارب .....وانها التأشير على مواطن الخلل في السلوك الانساني ، وما يمكن ان ينتج عنها من نتائج رهيبة ، وانْ جاءت في سياق تاريخي محض ..!!والملاحظ أنَّ كثيراً من النرجسيين حينما تُناط بهم مناصب مهمه ، ويُعهد اليهم بمهمات خطيرة ، تتزايد شكوكهم بالآخرين ،ويسوء ظنهم كثيراً بمن يكونون على صلة مباشرة برأس الهرم السلطوي، حتى أنهم قد يُقْدمون على ارتكاب أفظع الجرائم ، من أجل ان يخلو الجو لهم وحدهم دون شريك ...!!!وليس للشكوك والهواجس من خَلْفِيةٍ ، الاّ النرجسيه الفائقة ، التي تبالغ في حساباتها وافتراضاتها ، خشيةً على المصالح الذاتيه والمكاسب والامتيازات التي حازتها ،والتي يعني زوالها التدحرج الى مهاوي الإفلاس الاجتماعي ، والاندثار .وتجري في الخفاء ، وبعيداً عن الانظار ، عمليات رهيبه في سياق محاولات البعض التخلص من المنافِسين المحتملين .ان ما يكتشف من تلك الممارسات المحمومه، لا يشكّل الاّ جزء يسيراً منها..وما صنعه الطاغيه المقبور ، مع رفاقه في الحزب ممن يخشى منهم ، ليس الاّ مثالاً واحداً من الأمثله العديدة المتكرره في هذا المضمارومن الذي أقتنع مثلاً بان (عبد الخالق السامرائي) قد ارتكب من الجناية ما استحق معه الأعدام ؟وكاتب السطور معنيّ باقتناص الشواهد التاريخيه ،التي تعكس عُقد الحقارة والدونيه، في مواقف رجال تبوؤا مواقع حساسه في ظروف معيّنه ،واختاروا معها ان يكونوا النماذج السيئه لرجال السلطة ، لا لشيْ الاّ لنرجسيتهم المفرطه وانغماسهم الشديد في حب الذات، مما قادهم في النهايه الى درك الهلاك والسقوط الأخلاقي .وقد نقل ابن خلكان في وفيات الأعيان /ج1/ 386- 387 عن المعافى بن زكريا قصةً من المفيد اختصارها ، والوقوف عندها قليلاً ، ونحن نتحدث عن سوء الظن ، والهواجس النرجسيه القاتِله :وملخص الحكايه أنّ المنصور العباسي كان قد تزوج امرأة من الموصل ، أيام بني أميّه ، وأقام معها مدة حتى اذا حملت قال لها :" هذه رقعة مختومة عندك لاتفتحيها حتى تضعي ما في بطنك ، فان ولدتِ ابنا فسميه (جعفراً) وكنيّه (أبا عبد الله) وإنْ ولدتِ بنتاً فسميّها فلانه ...وأنا عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، فاستري أمري فانّا قوم مطلوبون "وودّعها وخرج ، فولدت المرأة ولداً وسمته (جعفراً) ، ونشأ الولد عند أخواله ....." وأقبل ابنها على الأدب فتأدب وكتب ، ونزعتْ به همتُه الى بغداد ، فدخل ديوان أبي أيوب ،كاتب المنصور "-وأبو أيوب المورياني هو وزير المنصور - وذات يوم ، احتاج المنصور كاتباً يكتب بين يديه ، فبعث به ابو ايوب المورياني الى المنصور وقد ارتاح المنصور الى الغلام وأحبه واستجاد خَطَه ، واستملح فهمه وبقى زماناً يكتب له ، وابو ايوب المورياني مسرورٌ بذلك ،فقد خفف عنه الغلام شيئاً من أعبائه .وقد أعتنى بالغلام ووصله وكساه ...!!!واستمرت الحال على ذلك الى أنْ سأل المنصور الغلام يوماً :ما اسمك ؟قال : جعفر قال : ابن مَنْ ؟فسكت متحيراً قال المنصور :ابن مَنْ ويحك ؟قال : ابن عبد الله قال : وأين أبوك ؟" قال : لم أره ولم أعرفه ، ولكنّ امي أخبرتني أنَّ ابي شريف ، وان عندها رقعة بخطّه فيها نسبه .."لقد تغيّر وجه المنصور حين ذكر الغلام الرقعه فقال :وأين أمُّك ؟قال : في موضع كذاقال : أتعرف فلانا قال : نعم ، هو أمام مسجد محلتناقال : أتعرف فلاناً ؟قال : نعم ......( فلما راى الغلام أبا جعفر ينزع باسماء قومٍ يعرفهم أدركته هيبة له وجزع) ودمعتْ عينا الغلام ، فادركتِ المنصور الرّقه عليه ،فلم يتمالك ان قال :فلانه بنت فلان من هي منك ؟قال : أمي وحين سأل ابا ايوب عن الغلام مرّة بعد مرّة ، ارتاب ابو ايوب، الى درجة بغّضت اليه الغلام ، وخُيّل اليه ان المنصور، قد يستغني عنه مكتفيا بالغلام..!!هذه الهواجس الشيطانيه أقّضت مضجعه وازدادت حدّةً ، مع ازدياد حب المنصور للغلام وتعلقه به ..!!وهنا قرر (ابو ايوب ) احتجاز الغلام عنده ،وابعاده عن المنصور ، واذا بالمنصور يأمر باستدعاء الغلام دون غيره ، الأمر الذي عمّق المخاوف في نفس ابي ايوب المورياني ثم ان الغلام أخبر المنصور بتغير المورياني عليه وبغضه له ، فقال له المنصور :" يابنيّ قد حاك ذلك في صدري "ثم رسم له المنصور خطةً ، يتوجه بمقتضاها الى أُمّه ، حاملاً اليها من المنصور هداياه ، وأمره ان يُقبل مع أمّه ، ومن أتبعها ، الى موضع حددّه له ، وسيرسل المنصور اليه من يتفقد أموره ، ويطلع على أحواله.وشددّ المنصور على الغلام بكتمان الأمر وعدم إطلاع احد عليه ...وساءتْ العلاقة بين الغلام والمورياني وهنا نفّذ الغلام الخطه ، وغادر متجهاً الى أمْه ( وهي في الموصل) ، وتفاقمت مخاوف المورياني الى درجة إرساله ، رجلاً من أصحابه أَمَرَهُ بتتبع آثار الغلام ، وقَتْلِه ، والاتيان بما حمله معه ..!!وهكذا كان وقُتِلُ الغلام خَنْقاً ،وطُرح في بئر ، وأُخِذَ ما كان معه ..!!وحين وقف المورياني على كتاب المنصور بخطّه الى أمَ الغلام ، وَجَمَ ، وندم ، وعلم انه عجل وأخطأ ، وعزم على الحلف والمكابرة انْ عُثر على شيء من أمره ,ولم يكن صعباً على المنصور ان يعرف حقيقة ما جرى بعد ان استبطأ الغلام وأمه .وحين تيقن المنصور من ايقاع المورياني بالغلام ، الذي هو ولده في الحقيقه - قرر معاقبته ، بقتله ومصادرة أمواله ، وأموال أهل بيته (...)( ثم قَتلهم جميعاً وأباد خضراءهم )وكان بعد ذلك ، كلما ذكر ابا ايوب لعنه وسبّه وقال : (ذاك قاتل حبيبي)-والمورياني نسبة الى مُوريان وهي قريه من قرى الأهواز .ان الدسائس التي تُحاك ضدّ اللامعين من رجال السياسة ، والبارزين من وجوه المجتمع ، ليست الاّ نُسَخَاً جديدة من دسائس المورياني بحق منافسه ، الذي لم يشفع له حتى صغر السنّ من ان يكون ملاحقاً حتى الموت .انّ أصحاب الشبق السلطوي لا يتورعون عن اللجوء الى أبشع الوسائل للنيل من منافِسيهم ، وخصومهم .ولا ينبغي ان تغيب عن البال تلك المؤامرات ، والمناورات ، والسجالات الساخنه ، التي يختلط فيها الخيط الأبيض بالخيط الأسود ...ان الميكافيليين من شياطين الإنس، يبتدعون من الأكاذيب والأعاجيب مالا يخطر على البال ، ومع ذلك كله فليس لهم في نهاية المطاف الاّ لعنة السماء وسوء العاقبه والهوان
https://telegram.me/buratha