اصدارات المجمع العلمي للدراسات والثقافة الاسلامية في النجف الاشرف
عزيزي القارئ اليك اصول الحرية في العقيدة الاسلامية في حلقات من اعداد الشيخ حيدر الربيعاوي / مدير مركز البحوث والدراسات الانسانية في النجف الاشرف ومن تاليف الدكتور الشيخ عباس الانصاري ومن اصدارات المجمع العلمي للدراسات والثقافة الاسلامية في النجف الاشرف
الحُرّيّةُ بين القانونِ الوضعيِّ والتكليفِ الشّرعيّ
مقدّمة تمهيديّة:إِنَّ الحرّيّة في الإِسلام ذات علاقة وثيقة وإِرتباط مباشر بالتكاليف التي قرّرتها الشرّيعة الإِسلاميّة، فشريعة الاسلام هي أوّل مِنَ قرّر حرّيّة الإِنسان وأعطاه حقوقه المشروعة في الحياة الإنسانيّة، مثلما فرضت عليه تكاليفاً وأَحكاماً الهيّة على اساس مبدأ العدل والمساواة، فله حقوق بما فيها الحريّة; وبقدر ما عليه واجبات، وليس كما يزعم البعض; بأنَّ الغرب «أَوّل مَنْ غرس بذرتها في أرض الواقع».إِنَّ مِنْ أَساسيات الشرّيعة الإسلاميّة التي تأسست عليها قواعد أحكامها وتكاليفها الشرعيّة المطلوبة فيها، هو قانون الإِختيار الالهيّ الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى للبشر; لكي يختار طريقه في الحياة الدنيا; وليصح مبدأ الثواب والعقاب في الحياة الاخرى، وعندها تكون (كلّ نفس بما كسبت رهينة)، وهذا هو معنى الحرّيّة في الإِختيار.وبهذا تكون الشريعة الإِسلاميّة قد سبقت القوانين الوضعية في إِعطاءِ الحرّيّة لبني آدم منذ أَوّل الخلق، أَضف الى ذلك أَنَّ القانون والحكم الوضعي متفرع عن الحكم والتكليف الشرِّعيّ، فالتكليف متقدم رتبه عليه، وبهذا تكون الحرّيّة في نفس المرتبة مع القانون الوضعيّ، إن لم تكن متقدم عليه.
* ننبيه هام:وبهذا يظهر فساد ما قرره (جون برجس) عند تعريفه للحرّيّة السياسة:«بأنّها كون المرء عضواً فعالاً، وَأنْ يكون له أثر على سن القوانين».وذلك باستعمال حقوقه في حرّيّة الكلام وحرية اقتراح القوانين.أَقولُ: إِنَّ سن القوانين مِنْ قبل الإِنسان لاينسجم مع الحرّيّة نفسها على ما قرّره الإِسلام الحنيف; لأنَّ الإِنسان مفتقر في الحصول على الكمال بدون الحصول على القوانين والتعاليم الإلهيّة، فكيف يكون قادراً ـ مع احتياجه وفقره الى الكامل المطلق، الله تبارك وتعالى ـ على سن القوانين، وهذا خلاف الإِعتقاد بأَن يكون المشرّع المطلق لها هو الخالق العظيم (جلّ اسمه)، ثُمَّ أَنَّ سن القوانين الإِلهيّة مِنْ قبله (جلَّ وعلا) في الاسلام لاينافي الحرّيّة بهذا المعنى.ولأجلِ بيان موقع الحرّيّة بين القانون الوضعيِّ والتكليف الشّرعيىِّ لابد مِنْ بحثها من خلال ثلاثة جوانب مهمة ترتبط بمفهومها الحقيقيّ ارتباطاً مباشراً:
الجانب الأوّل: الكلامُ في أَصلِ الحرّيّةِ
بعد تقديم هذه المقدمة الموجزة، ظَهْرَ لنا جليّاً أَنَّ أصل الحرّيّة في الانسان في قبال أفراد نوعه مِنَ الممكنات لا في قبال الواجب تعالى ذكره نابع من التعاليم الالهيّة في الإِسلام، وهذا يعني أَنَّ الأصل في الانسان إباحة الاشياء وإِعطاء الحرّيّة له في التصرّف فيها. قال تعالى:(سخّر لكم ما في السموات ومافي الأرض جميعاً) .فيمكن أن نستفيد من هذه الآية الكريمة إِباحة ما في السموات وما في الأرض لبني ادم، وجعل الانسان حرّاً في تصرفاته واستفادته مما فيهما، لكن الاسلام قيد هذه الاباحة، وتلك الحريّة بما تقتضيه التعاليم والأحكام الألهيّة في الشريعة الاسلامية، لكي لاتنتشر الفوضى بين البشرية، ولتعيش حرةً كريمةً بعزِّ الدين وحدود الشّريعة التي تؤطر الحرّيّة الصحيحة التي ارادها الله تبارك وتعالى للانسان حيث خلقه مختاراً، يسمو في درجات الكمال والمعرفة، وسلوك طريق الحق اليه، والذي خُصص بالتحرر من كل قيود العبود لغير الله (جلّ وعلا).ومنه يتضح أَنَّ الأصل في الانسان العبودية لله سبحانه وتعالى، ولاتنافي بين الأصلين، أي الحريّة والعبودية لله.* تنبيه آخر: ومنه يظهر بطلان القول بأن:روسو الفرنسي هو الذي غَرْسَ بذرتها وأَثبتَ جذرها .* * *
الجانب الثّانيّ: الحرّيّة الصحيحة في القانون الوضعي:
لايمكن أَنْ تكونَ الحريّةُ صحيحةً بشتى صورها، ومختلف أشكالها، وأقسامها، ومابرتبط بها في القوانين الوضعية، إلاَّ إِذا كانت متوافقة ومنسجمة مع التكاليف والأحكام الشرعيّة.لذا يجب أَنْ يؤطر القانون الوضعي بإِطار التكليف الشرّعيّ وحدود الشريعة الإِسلاميّة; لكي تكون الحرّيّة مرضيّة للهِ سبحانه وتعالى، ويكون مبدؤها الإِختياريِ هادفاً للكمال المنشود نحو الفلاح في الحياة الدنيا، والفوز والنجاة في الحياة الأُخرى.عندئذ تتلائم هذه الحريّة بقانونها الوضعي مع المصلحة العامة للإِنسانيّة; لأنَّ الدّين الإِسلاميّ إِنّما جاء لإسعاد الناس والحفاظ على مصالحهم وإِبعادهم عن الوقوع في المفاسدة كما أَنَّ الأَحكام التكليفيّة شُرّعت لأجل ذلك.مِنْ هُنا يجب أَنْ تُصبْ الحريّة المؤطرة بالقانون الوضعي في المصب الذي يُصب فيه الحكم التكليفي، بل يجب أنْ تكون نابعة مِنْ نفسِ الحكم المذكور، وحينئذ; وعلى أساس هذه الحريّة يكون مِنْ حقِّ كل إِنسان أَنْ يقيم حيث يشاء، وأنْ يُسافر متى شاء والى أيِّ بلد، وليس مِنْ حقِّ أيِّ إنسان أن يمنعهُ من ذلك، أو يعجزّه بوضع عراقيل وضعيّة أمامه تحجزه عن تحقيق اهدافه المشروعة. نعم توجد قوانين وضعيّة تهدف لتهيئة أجواء النظام، كحق الأسبقيّة، يجب على الجميع مراعاتها، كما يحق له أَنْ يحترف المهنة التي يختارها، وله أَنْ يزاول أيّ عمل مشروع ويتكسّب بما يقدر عليه، وله أن يلجأ الى أي رقعة من بقاع الأرض لطلب الأمان والعيش والحفاظ على العقيدة، وأن يسكن كذلك.وتتأكد هذه المفاهيم مِنَ الحرّيّة على نحو الوجوب في بلد الأسلام من باب إعانة المسلمين وإغاثتهم وتوفير هذه الحقوق الشرعية لهم، فضلاً عن الحقوق العامة التي شرّعها الاسلام; والحقوق الانسانية التي أقرها العرف خصوصاً في ظرف الهجرة الى بلاد الاسلام من قبل المسلمين، بل يجب على أهل ذلك إجارتهم، وتوفير الأجواء المناسبة لهؤلاء اللاجئين، والتي تهىء لهم الطمأنينة والأمان، وحُسن المعاشرة، والمعاش الحرّ بينهم; وذلك بعيداً عن التعصب القبلي والقومي; بل تثبت إجارة المهاجرين حتى ولو كانوا مشركين بصريح القرآن الكريم، قال تعالى: (وإِنْ أحدٌ مِنَ المشركين اجارك فأجرهُ) فإِذا طلب المشرك الذي يحمل قتله أماناً من أي مسلم يجب عليه أن يجيره ويعطيه الأمان على نفسه وماله، ويدعوه الى الاسلام بالحكمة وسُبل الأقناع، فإِن أسلم فذاك، وإلاّ فعلى المسلم أن يوصله الى مكان يأمن فيه على نفسه، وكان هذا يوم كان الاسلام قويّاً بأهله، أما اليوم فأهله يستجيرون باعدائه! للتخلص من تسلط الظلمة وجورهم.وعليه لايحق لأي إِنسان أن يحرم أي شخص مسلم من هذه الحقوق، أو التمتع بحريّته التي أقرّتها الشّريعة الإسلاميّة; بل لايصح أن يتعامل معه على أساس القانون الوضعي الخارج عن حدود الشريعة المقدّسة .
https://telegram.me/buratha