سماحة السيد حسين الصدر
اذا كان ايداع الاموال في المصارف والبنوك ظاهرة شائعة في المرحلة الراهنة فان المرحلة السابقة على ظهور المصارف كان الناس فيها يودعون أموالهم عند من يظنون فيهم الرعاية الكاملة لحدود الشرع في الحفاظ على الامانة وارجاعها الى أهلها عند الطلب .ومن المفارقات العجيبة ان الكثير من المخادعين ينجحون في اصطياد من يظن بهم الخير ، فاذا ما استودعوا شيئاً عمدوا الى ابتلاعه ،وانكار علاقتهم به من قريب أو بعيد وقع ذلك في الماضي البعيد ......ويقع اليوم - للأسف - في العراق الجديد ومن هنا نشأت أزمة الفساد المالي الرهيبة ، بكل ما تنطوي عليه من أبعاد التنكر للقيم الشرعية والقانونية والادارية والانسانية والاخلاقية .ولا أدري هل هي مجرد مِزْحة أم أنها حقيقة حيث ان المسموع ان بعض أصحاب المظاهر الخادعة يعمدون الى ( الوضوء ) قبل توقيعهم العقود التي يجنون من ورائها ما يجنون من السحت الحرام والمال العام !!والمخدوع هنا ليس انساناً واحداً فقط ، وانما هو جمهور من الناس وضع ثقته فيهم استناداً الى المظهر الخادع والى كثير من البراقع التي تحجب حقيقتهم عنه وفي ترجمة الشاعر حمزه بن بِيض -وهو من شعراء العصر الاموي - تذكر قصة ايداعه ثلاثين الف درهم عند ( ناسك ) ، لم يصن الأمانة وانما بني بها داره ، وزوّج بناته ، وأنفقها وَجَحَدَه ..!! هكذا بكل وقاحة ،وبكل صلف ، تصرّف في الوديعة تصرف المُلاّك ، وحين طولب بها أنكرها ايما انكار ، الامر الذي أثار الشاعر ، فاندفع يقول :ألا لا يَغُرّنْك ذو سجدةٍ يظل بها دائباً يخدعُ كأنَّ بجبهته حِلـــــبةًتُسبّحَّ طوراً وتسترجعُوما للتقى لزمتْ وَجْهَهولكنْ ليعثرَ مُسْتَودِعُثلاثون ألفاً حواها السجودفليت الى أهلها ترجِع بنى الدار مِنْ غيرِ مامالِه فأصبح في بيتهِ يرتعُمهائر من غير مالٍ حواهُيُقاتُون أرزاقَهم جُوَّعُ { الوافي بالوفيات / ج9/189 - 190 }والقصص في هذا الباب كثيرة تنبو عن العدّ والاحصاء وسنذكر هنا مثالين فقط ليعتبر بهما أولوا الالباب زارني أحد كبار القضاة العراقيين ، وكان قد اشترى شقة في لندن، وعهد الى صديق عمره ،بمهمة دفع قوائم الغاز والماء والكهرباء بعد ان خوله رسميّاً في البنك ،بسحب تلك المبالغ من حسابه الشخصي وانما عهد الى هذا الصديق بهذه المهمة ،باعتبار أنه ليس مقيماً في لندن وذات يوم يفاجئ القاضي بصدمة كبرى كادت ان تقضي عليه :لقد راجع البنك الذي أودع فيه أمواله ليسحب شيئاً منها ، فاذا به يُبلّغ بان الرصيد مسحوب بالكامل ،وقد اطلعه البنك على ورقة التخويل التي وقعّها ليتيح لصديقه ان يسحب من الحساب ما يكفي لسداد الفواتير .يقول :قلت لصديقي كيف تسحب الرصيد بكامله دون إخباري ؟ فقال :أنا أدري أنك ترضى بذلك !!!- وهو أدعاء باطل كما هو معلوم - يقول :قلت له اذا بادِرْ الآن الى ارجاع المبلغ اليّفقال :ليس لديّ الآن قدرة على الارجاع ،وقد مات دون ان يرجع الى صديقه بنساً واحداً !!وحدثني صديق آخر انه اشترى منزلاً وسجلّه باسم والد زوجته ، حيث انه كان يتعذر عليه أيام الدكتاتورية البائده ، القدوم الى العراق وتولي الأمر بنفسه ، وحين عاد الى العراق بعد سقوط الصنم ،أنكر عمّه ملكيته للدار .وحين نشب النزاع بينهما اصطفّت زوجته مع أبيها ، الأمر الذي أرغمه على طلاقها .وهكذا فَقَدَ داره وزوجته ،بفعل هذا الداء الوبيل ،داء خيانة الأمانه ان أداء الأمانة الى أصحابها يكشف عن الهوية الحقيقية للأنسان لأنه محك عملي ، ومؤشر واقعي للدلالة على الشخصيّة . انّ الحذر من الوقوع في أفخاخ المخادعين لا بُدَّ منه ومن السذاجة بمكان ، ان يتم الاطمئنان الى جنود الشيطان من أهل الزيف واللمعان .
https://telegram.me/buratha